الدرس المهدوي بين الأهمية وآليات التخصص (أهمية البحث عن القواعد المهدوية وتدوينها والاعتماد عليها في ضبط المسائل المتعلقة بالمهدوية)
الدرس المهدوي بين الأهمية وآليات التخصص
(أهمية البحث عن القواعد المهدوية وتدوينها والاعتماد عليها في ضبط المسائل المتعلقة بالمهدوية)
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
↑صفحة ٠↑
تمهيد:...................١٨٣
الفصل الأوَّل: تعريف الدرس المهدوي وأنحاء التلقي التخصصي، في نقاط ثلاث:...................١٨٥
قواعد المسائل المهدوية في كتاب كمال الدين:...................١٩٣
كتاب المقنع في الغيبة:...................١٩٦
الفصل الثاني: القواعد العامة التي ينبغي الاشتغال عليها وآليات التعاطي المعرفي مع المهدوية:...................١٩٩
الأولى: تأصيل القواعد:...................٢٠٠
الثانية: البحث العام في تأسيس القواعد:...................٢٠٢
الثالثة: القواعد في المهدوية:...................٢٠٤
نماذج من قواعد هذه الجهة ذكرها بعض الأعلام (قدّس سرّه):...................٢٠٧
الفصل الثالث: نماذج من تطبيقات حول القواعد المهدوية:...................٢١٠
حول الوظيفة تجاه الإمام (عجَّل الله فرجه) في الغيبة:...................٢١٠
التطبيق الأول: في وجوب نصرة الإمام (عليه السلام) للقيام بوظيفته:...................٢١٠
يقع البحث في بيان عدَّة قواعد متسلسلة:...................٢١١
القاعدة الأولى: قاعدة أنَّ نصرة الإمام (عجَّل الله فرجه) على أساس المزج بين الغيب والبشرية:...................٢١١
القاعدة الثانية: تفرع وجوب الطاعة على ضرورة المعرفة للإمام (عليه السلام): ذكرت العديد من الأدلة الدالة على وجوب البحث عن الإمام (عليه السلام)، والمتضمنة لوجوب طاعته ونصرته، ومن عناوينها:......................٢١٢
القاعدة الثالثة: لزوم النفر إلى الإمام (عليه السلام):...................٢١٣
القاعدة الرابعة: إطلاق لزوم التمكين للإمام (عليه السلام):...................٢١٤
شواهد ومؤيدات: الانتظار ومراتب النصرة والإعداد:...................٢١٩
قاعدة: لا تُطبِّق ما لم تجزم بالعلامة:...................٢٢٨
قواعد في مسألة فرعية من مسألة العلامات: قواعد مسألة الصيحة:...................٢٣٢
↑صفحة ٠↑
تمهيد:
في هذا البحث سنسلط الضوء على جانب وزاوية من زوايا الاهتمام بهذه العقيدة من خلال ما نُعبر عنه بـ(الدرس المهدوي)، ولعله لا مُبالغة إذا قلنا بضرورة الاهتمام بالعقيدة المهدوية لبيان ركائزها وقواعدها، بل والتفرعات المترتبة عليها، فهذا الاهتمام يسهم كثيراً في رفع جملة من الشبهات المثارة حولها، بل قد يقتلع جملة منها من جذورها.
نحاول في هذا الصدد التنقيب عن القواعد العامة والفرعية للمهدوية والتأصيل لبعضها والتفريع على أخرى، بعد فرزها وضبطها وتبويبها ومن ثم القيام بعملية تدوينها كقواعد عامة أو فرعية من أجل ضبط المسائل المهدوية، حيث وجدت من خلال متابعات طويلة ومتواصلة ولأعوام عديدة قاربت الـ(٢٠) عاماً، أنَّ هذه القواعد مذكورة في كتب أعيان الطائفة (قدّس سرّهم) كما ستطلع عليه في بيان جملة وافرة منها في هذا البحث، ولكنها متناثرة في الغالب هنا وهناك، بل ووجدت البعض منها مطوياً ومغلفاً بعبارات معقدة وبصياغات قديمة قد يصعب على غير المتمرس الالتفات إليها بعنوان قاعديتها، ووجدت بعضها الآخر مدرجاً في بطون مسائل ومباحث قد تكون ولأوَّل وهلة بعيدة عن البحث المهدوي، وهذا ما يحتاج إلى جهد مضاعف ولفترة زمنية ليست
↑صفحة ١٨٣↑
بالقليلة من أجل إخراجها من الكتب، وهذا هو الداعي الأوَّل والأخير من وراء طرح العنوان المتقدم (الدرس المهدوي) بالمعنى الذي سيأتي بيانه، من أجل تقعيد التفريعات وضبطها بضبط أصولها، وتفتيق ما يصلح للإثراء منها وإدراج كل صنف منها وما يلحقه من تفريعات في فصله الخاص به وعلى غرار علوم مقاربة كعلم القرآن والحديث والكلام والأصول.
لا أبالغ في القول: إنَّ الاهتمام بالدرس المهدوي بالمعنى الآتي وبشكل تخصصي، يعطي للدارسين قدرة التغلب على الكثير من صعاب هذه العقيدة وعدم الانجرار وراء بعض المنزلقات التي وقع فيها جملة ممن خاضها بغير تخصص وضبط لقواعدها.
كما ويعطي - بتراكم الخبرة وامتلاك القدرة على ضبط القواعد والإحاطة بها بعد تبويبها - قابلية عالية للدارسين في الالتفات إلى التوسعات والتفريعات التي يصح الخوض فيها وإدراجها في العقيدة المهدوية وتلك التي تندرج في غيرها.
فكما أنَّ الاهتمام بالدرس الأصولي أوجب توسعاً كبيراً في علم الأصول، وبرزت من خلال هذا الاهتمام الواسع، الكثير من المسائل التي كانت مطويةً في بطون الكتب، وتفرع على الدرس الأصولي - والذي استغرق العمل عليه العشرات من السنين، بل المئات، من الدرس والتدريس والمباحثة والتأليف والكتابة والاهتمام - الكثير من المسائل العميقة والدقيقة، والتي أثرت وأثَّرت بدورها على مسائل الفقه وبيان الأحكام الشرعية، بل على مسائل علم التفسير وعلم الكلام والحديث لوجود ترابط على مستوى الغرض بين هذه العلوم بل وتداخل في عدد غير قليل من المسائل.
فكذا الاهتمام بالدرس المهدوي سينعكس على العقيدة المهدوية بشكل مؤثر وواضح، كما انعكس الاهتمام بعلم الأصول بالبيان المتقدم، وكما انعكس الاهتمام بالتفسير ودراسة علوم القرآن على إثراء هذا العلم، بل وسينعكس
↑صفحة ١٨٤↑
على الكثير من المسائل المتفرعة على قواعد المهدوية العامة من قبيل اللقاء بالحجة (عليه السلام) في زمن الغيبة وحكم التسمية له (عليه السلام) وطريقة نصرته في غيبته وما يتفرع عليها من انتظاره وآليات التعامل مع علامات ظهوره وهل يصح تطبيقها، وكالجهاد في زمن الغيبة ومسألة حرية الأديان في زمن الظهور وحقيقة الرجعة وسعة دائرة صلاحيات الفقهاء في عصر الغيبة الكبرى، وفي الجانب الاقتصادي والمالي من جهة الأنفال والزكاة والخمس وغيرها الكثير مما ستطلع عليه في الجملة من خلال هذا البحث.
لا شك في وجود صعاب، بل عقبات عديدة ومختلفة على مستوى الاثبات والثبوت في هكذا عمل، ولكن اقتحام هذا الجانب له إيجابيات كثيرة - لا تكاد تخفى على من اشتغل بالمسائل المهدوية، وسيأتي الإشارة إلى بعضها في طيات الكلام الآتي - تدعو إلى خوض غمار هذا البحث، وكيفما كان فهي محاولة متواضعة في هذا الطريق الطويل، نسأله تعالى التوفيق لإتمامها بلطف ورعاية مولانا (عليه السلام).
فصول البحث:
الفصل الأوَّل: تعريف الدرس المهدوي وبيان أنحاء التلقي التخصصي، في عدة نقاط.
الفصل الثاني: تدوين وضبط القواعد العامة التي ينبغي الاشتغال عليها في عدة نقاط.
الفصل الثالث: البحث التطبيقي وبيان تطبيق القواعد العامة على المسألة المهدوية، في عدة محاور تشتمل كل واحدة منها على عدة نقاط.
الفصل الأوَّل: تعريف الدرس المهدوي وأنحاء التلقي التخصصي، في نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: تعريف الدرس المهدوي: المقصود من الدرس المهدوي
↑صفحة ١٨٥↑
هو تلقي المعلومات المتعلقة بالمهدوية بطريقة تخصصية، من خلال تفريع النتائج في المسألة المهدوية على عدة قواعد مدونة سلفاً ويصح الرجوع إليها والاعتماد عليها في حكم المسألة المهدوية، وهذا التلقي يتنوع في أساليبه وأنحائه.
النقطة الثانية: أنحاء التلقي للمعلومات المهدوية: لتلقي المعلومات المهدوية بطريقة الدرس المهدوي عدة أنحاء وهي:
النحو الأوَّل: الدرس التقليدي أو ما يقوم مقامه: هذا هو النحو المتعارف عليه في الحوزات العلمية - وهو العمدة في البناء التخصصي في العلوم الدينية - حيث يجتمع الطلبة في مجلس الدرس مع أستاذ معين، ويتبعون الطريقة المعتادة من قراءة النصوص، والاستماع إلى شرح الأستاذ، ومن ثم المناقشة حول المادة المطروحة، إلى أن يمتلك التلميذ القدرة العلمية في المادة المدروسة بحسب المنهج المعد مسبقاً، وبالكيفية المعروفة والمتداولة في التدريس وإن اختلفت بعض طرق تدريسها.
النحو الثاني: جلسات المباحثة: في هذا النحو، يجتمع عدد من الطلبة، أهل الكفاءة والقدرة العالية على فهم النصوص والمفاهيم - خاصة ممن تجاوزوا مراحل متقدمة في الدراسة الحوزوية - ليناقشوا فيما بينهم مجموعة من النصوص والمتون المتعلقة بالعقيدة المهدوية - من المصادر التي سنشير إليها - في جلسات نقاشية يتم فيها تبادل الأفكار والنقاشات العميقة.
الهدف هو بناء التخصص في العقيدة المهدوي لدى كل فرد من أفراد هذه المجموعة من خلال الجهد الجماعي، ولكن مع ضرورة أن يكون لدى المشاركين اهتمامات مشتركة وتقارب فكري، إلى جانب الالتزام ببذل جهد واسع للوصول إلى فهم معمق للمادة المطروحة، وتحت إشراف ورعاية من له الخبرة في القواعد العامة للبحث.
↑صفحة ١٨٦↑
النحو الثالث: الاستماع المكثف: تعتمد هذه الطريقة على استماع عدد كبير من المحاضرات المهدوية، مع ضم قراءة المتون المهدوية - التي سنشير إليها - وهذا النموذج لا يقتصر على متن معين أو محاضرٍ بعينه، وإنَّما يتطلَّب الإكثار من استماع المحاضرات لأشخاص معروفين، مع ضرورة السؤال عنهم وتمييزهم بدقة - كما نميز في الحوزة العلمية بين الأساتذة وفقًا لعمق طرحهم، ودقتهم، وقدرتهم على البيان، وكيف أنَّ بعض الأساتذة يقوم بتعويد الطلبة والتلاميذ على كيفية اكتساب القدرة على مستوى التدريس، وعلى مستوى الفهم، وعلى مستوى المراجعات للمصادر -، وتحديد عدد المحاضرين وكمية ما يتم سماعه ينبغي أن يكون تحت إشراف من له الخبرة بهذا الشأن كي لا يحصل خروج عن الغرض وبالتالي يضيع الجهد للوصول إلى التخصص في هذا المجال، ويجد المتبع لهذه الطريقة وبعد فترة ليست بالقصيرة أنَّه لم يتجاوز مرحلة الثقافة المهدوية، كما هو المشاهد لدى عدد غير قليل ممن يسلك هذه الطريقة.
نعم، قد يمتاز بعض الأفراد بقدرات ذهنية خاصة وهمة عالية تمكنهم من تحصيل المعلومات التخصصية بشكل أدق وأسرع.
على أنَّ هذه الطرق والأنحاء لا بينونة بينها فيمكن لفرد واحد أن يتلبس بها جميعاً، أو ببعضها.
هذا فيما يرتبط ببيان معنى الدرس المهدوي وما نقصده منه، مع بيان أنحاء التلقي فيه.
النقطة الثالثة: اهتمام أعلام الطائفة بالعقيدة المهدوية: نتحدث في هذه النماذج عن الكتب والمصنفات التي برز فيها الاهتمام بالعقيدة المهدوية كلاً أو بعضاً مما وصل إلينا من مصنفات أصحابنا، أمَّا ما لم يصل إلينا منها فهو
↑صفحة ١٨٧↑
أضعاف مضاعفة، يَعرف ذلك من يسبر أغوار فهارسهم ويطلع على ما دونوه في مصنفاتهم(١).
ومن بين الواصل إلينا نذكر عدَّة نماذج:
النموذج الأوَّل: كتاب الكافي، لثقة الإسلام الشيخ الكليني (رضي الله عنه): والذي كان في طليعة علماء كلام عصر الغيبة الصغرى - وكبار محدثيها وفقهائها العظام - ممن وصلت كتبهم إلينا، وما كتبه في الكافي عن عقيدة الإمامية في الإمامة (عليه السلام)، وخصوصاً في الإمام الحجة (عجَّل الله فرجه) كثير وكبير وعظيم، حيث ذكر (رضي الله عنه) بعد مقدمة الكتاب عدة كتب وفصول، منها: كتاب التوحيد، وذكر فيه عدة أبوب منها: باب البيان والتعريف ولزوم الحجة، باب اختلاف الحجة على عباده، باب حجج الله على خلقه، وهكذا عدة أبوب من كتاب التوحيد.
ثم ذكر (رضي الله عنه) كتاب الحجة: وذكر فيه العديد من الأبواب أُشير إلى بعضها: باب الاضطرار إلى الحجة، باب أنَّ الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام، باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجة، باب معرفة الإمام والرد إليه، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، باب ما فرض الله (عزَّ وجلَّ) ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الكون مع الأئمة (عليهم السلام)، باب أنَّ الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم، باب الإشارة والنص إلى صاحب الدار (عليه السلام)، باب في تسمية من رآه (عليه السلام)، باب في النهي عن الاسم، باب نادر في حال الغيبة، باب في الغيبة، باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة، باب كراهية التوقيت، باب التمحيص والامتحان، باب أنَّه من عرف إمامه لم يضره تقدم هذا الأمر أو تأخر، باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل ومن جحد الأئمة أو بعضهم ومن أثبت الإمامة لمن ليس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) أُلِّفتْ - منذ بدايات عملية التصنيف والكتابة - الرسائلُ والكتبُ حول العقيدة المهدوية، ككتاب الغيبة للفقيه علي بن الحسن الطاهري (رحمه الله) والغيبة للعباس بن هاشم الناشري الأسدي (رحمه الله) المتوفي سنة (٢٢٠هـ أو ٢١٩هـ) وغيرهما الكثير.
↑صفحة ١٨٨↑
لها بأهل، باب في من دان الله (عزَّ وجلَّ) بغير إمام من الله (عزَّ وجلَّ)، باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى، باب فيمن عرف الحق من أهل البيت ومن أنكر، باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام (عليه السلام)، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية وحق الرعية على الإمام (عليه السلام)، باب أنَّ الأرض كلها للإمام (عليه السلام)، باب مولد الصاحب (عليه السلام)، باب فيما جاء في الاثني عشر والنص (عليهم السلام)، وهكذا العشرات من الأبواب التي ذكرها في هذا الكتاب أي كتاب الحجة ومن غيره من فصول كتاب الكافي.
والنظر الدقيق يقتضي أنَّ جملة من هذه الأبواب هي أصول للعديد من القواعد للمسائل المهدوية الآتية، وتعتبر نصوص الأبواب التي ذكرها مستندات للعديد من القواعد الآتي ذكرها.
النموذج الثاني: الشيخ ابن قبة الرازي (رحمه الله) هذا الرجل العظيم الذي يصح لنا أن نُلَقبه بالمحامي والمدافع عن الإمام الحجة (عجَّل الله فرجه)، وكان في زمان الغيبة الصغرى، وقد ترجم له الشيخ النجاشي (رحمه الله)، قائلاً(٢): (محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي أبو جعفر، متكلم، عظيم القدر، حسن العقيدة، قوي في الكلام، كان قديماً من المعتزلة، وتبصر وانتقل. له كتب في الكلام، وقد سمع الحديث، وأخذ عنه ابن بطة، وذكره في فهرسته الذي يذكر فيه من سمع منه، فقال: وسمعت من محمد بن عبد الرحمن بن قبة، له كتاب الإنصاف في الإمامة، وكتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي، وكتاب الرد على الزيدية، كتاب الرد على أبي علي الجبائي، المسألة المفردة في الإمامة.
سمعت أبا الحسين ابن المهلوس العلوي الموسوي (رضي الله عنه) يقول في مجلس الرضي أبي الحسين محمد بن الحسين بن موسى، وهناك شيخنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان (رحمهم الله أجمعين)، سمعت أبا الحسين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢) رجال النجاشي: رقم١٠٢٣، ص٣٧٥.
↑صفحة ١٨٩↑
السوسنجردي (رحمه الله) وكان من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلمين وله كتاب في الإمامة معروف به، وكان قد حج على قدميه (قدمه) خمسين حجة - يقول: مضيت إلى أبي القاسم البلخي (وهو رأس المعتزلة في زمانه أي قبل ٣٢٠ هجرية) إلى بلخ، بعد زيارتي الرضا (عليه السلام) بطوس، فسلمت عليه، وكان عارفاً بي، ومعي كتاب أبي جعفر ابن قبة في الإمامة، المعروف بالإنصاف، فوقف عليه ونقضه بـ(المسترشد في الإمامة)، فعدت إلى الري فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه بـ(المستثبت في الإمامة) فحملته إلى أبي القاسم فنقضه بـ(نقض المستثبت) فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قد مات (رحمه الله).
وقد تضمنت كلمات الشيخ ابن قبة الرازي (رحمه الله) العديد من القواعد(٣)، ومنها:
القاعدة الأولى: عدم صحة الكلام في فرع لم يحكم أصله: قال (رحمه الله): أوَّل ما يجب أنْ لا نتجاوزه ومما قد رضي به أهل النظر، واستعملوه، ورأوا أنَّ من حاد عن ذلك فقد ترك سبيل العلماء وهو إنا لا نتكلم في فرعٍ لم يثبت أصله).
هذا نص عبارته في هذا الأصل الذي مشى عليه كل من جاء بعده.
إن قلت: القاعدة المتقدمة التي ذكرها الشيخ (رحمه الله) وسار عليها من جاء بعده، لا نجدهم اعتمدوا عليها عملياً حيث نجدهم كتبوا في الولادة والغيبة والعلامات، وتجاوزوها إذ لم يقتصروا على الأصل فيها، فكيف يذكرونها ولا يلتزمون بمضمونها.
قلت: يجاب عنه من جهات:
١ - أنَّ القاعدة المتقدمة من مواردها باب الإثبات والجدل مع الخصوم، فلا وجه للإشكال علينا في الغيبة وهم لا يسلمون بالأصل المتفرعة عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣) ذكرت هذه القواعد في عدة مقالات تحت عنوان توضيح الإجابات المتضمنة لتوضيح كلمات الشيخ ابن قبة الرازي (رحمه الله)، ومنشورة معظمها في مجلة الموعود التخصصية في عدة مقالات.
↑صفحة ١٩٠↑
٢ - أنَّ هذه القاعدة من القواعد العرفية العقلائية، فهي تقول يوجد بين المسائل ترتيب طبعي فما هو فرع لابد من إثبات أصله أولاً ثم الحديث في الفرع، وليس معنى ذلك عدم الحديث في الفرع مطلقاً، بل إنَّ وقت الحديث فيه بعد إحكام أصله.
٣ - أنَّ الحديث في هذه القاعدة ليس للخصوم ومقام الجدل وحسب، بل لأجل من يؤمن بالعقيدة المهدوية فعليه أن لا يذهب إلى الفرع دونما فراغ عن أصله.
القاعدة الثانية: لا نزاع ولا خصومة في الأمر الواضح: ويقصد به ضرورة وجود إمام في كل زمان ولو غاب، والإمامة لا تثبت فيما هو محل شبهة.
القاعدة الثالثة: صرف الادِّعاء ليس من الحجج: إذ لو كانت كذلك لصحت كل دعوى.
القاعدة الرابعة: الطلب بمشاهدة الإمام (عليه السلام) في الغيبة لا معنى له: إذ ليس فينا من يأمر الإمام (عليه السلام)، وإنَّما نحن مأمورون بالوقوف عند طاعته وأوامره.
وغير ذلك مما يقف عليه المتتبع لكلماته (رحمه الله).
النموذج الثالث: الشيخ النعماني (قدّس سرّه)، من تلامذة الشيخ الكليني (رضي الله عنه)، قال عنه الشيخ النجاشي (رحمه الله)(٤): (محمد بن إبراهيم بن جعفر أبو عبد الله الكاتب، النعماني، المعروف بابن زينب، شيخ من أصحابنا، عظيم القدر، شريف المنزلة، صحيح العقيدة، كثير الحديث. قدم بغداد وخرج إلى الشام ومات بها. له كتب، منها: كتاب الغيبة، كتاب الفرائض، كتاب الرد على الإسماعيلية. رأيت أبا الحسين محمد بن علي الشجاعي الكاتب يقرأ عليه كتاب الغيبة تصنيف محمد بن إبراهيم النعماني بمشهد العتيقة، لأنه كان قرأه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤) فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي)، النجاشي، ص٣٨٤.
↑صفحة ١٩١↑
عليه، ووصى لي ابنه أبو عبد الله الحسين بن محمد الشجاعي بهذا الكتاب وبسائر كتبه، والنسخة المقروءة (المقروة) عندي(٥).
القواعد والمنهجية في غيبة النعماني (قدّس سرّه): هذا الكتاب القيّم يقع في (٢٦) فصلاً، ومن بين أهم المسائل التي بحثها الشيخ النعماني (قدّس سرّه)، هي: باب الوصية بالإمام وما روي في أنَّ الأئمة اثنا عشر إماماً، وأنهم من الله وباختياره، وأعقب ذلك بما روي عن العامة.
وهذا منهج وقاعدة متبعة في الإثبات، والمهم في هذا الجانب ملاحظة منهجيته في طريقة بيان المسائل المهدوية وتبويبه له.
ثم تحدث عن الرايات التي ترفع قبل القائم (عليه السلام) ومن يدعي الإمامة بغير وجه الحق، ومن يشك في الإمام (عليه السلام)، وأنَّ الأرض لا تخلو من حجة، وفي هذا الجانب يجد المدقق أنَّه يقتفي أثر شيخه الكليني (رضي الله عنه) في التصنيف.
ثم ذكر ما روي في غيبة الإمام الحجة من أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من ولده (عليهم السلام)، ولعل الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) في هذه المسألة اقتفى أثر الشيخ النعماني (رحمه الله)، لأنَّه في طبقة مشايخه.
ثم ذكر الروايات التي تحدثت عن مسألة الصبر والانتظار وطلب الفرج وما يقع من شدة ووظيفة الناس فيها، وله عدة تعليقات قيمة في آخر بعض الأبواب، وإن كانت هذه التعليقات لا تخلو من النظرة التشاؤمية والحدة في بعض الأحيان.
ثم ذكر مسألة صفات الإمام (عليه السلام) وسيرته وأفعاله وفضائله وما نزل فيه وما يعرف به وصفات جنوده إلى أدق التفاصيل، ولعله (رحمه الله) أول من كتب في هذا الباب مما وصل إلينا من مصنفات الأصحاب.
ثم ذكر مسألة العلامات وما يدل على ظهوره والشدة التي تكون قبل ظهور الإمام (عليه السلام) وما جاء من العلامات المحتومة وفصّل فيها في عدة أبواب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥) وهذا من الطرق العالية لإثبات النسخ للكتاب من جهة كون النسخة المقروءة عند الشيخ النجاشي (رحمه الله).
↑صفحة ١٩٢↑
بما لا نظير له قبله، من بيان راية الإمام (عليه السلام) وجيش الغضب ومقدار عمره عند خروجه ومدة ملكه.
ثم ذكر مسألة التوقيت والمنع عن التسمية، وغير ذلك مما يتفرع عليها.
ثم ذكر مسألة استئناف الإمام للإسلام جديداً، وما ترتب على هذه المسألة من شبهات وتهم للشيعة إلى يومنا بسبب كون رواياتها من المتشابه.
النموذج الرابع: الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) وكتابه كمال الدين لا يحتاج إلى تعريف، وهو من الكتب التي اختصت ببحث الغيبة مفصَّلاً على طريقة المحدثين ونقل المقولات الكلامية، والصفحات الأولى منه وبما يقرب من (٦٠) صفحة فيها عصارات البحث الكلامي في الإمامة ومنهج متكامل في الرد على منكر الإمامة والغيبة.
كتاب كمال الدين وتراث ابن قبة الرازي (رحمه الله): هذا الكتاب هو الوحيد الذي نقل نصوص كلمات الشيخ ابن قبة (رحمه الله) وتضمن بعض كتبه، وما وصل إلينا من تراث لابن قبة (رحمه الله) هو عن طريق كمال الدين حصراً، فله (رحمه الله) الفضل في ذلك، وبذلك يعد هذا الكتاب من الكتب الكلامية المختصة ببحث المهدوية والتي مزجت بين منهجية أهل الحديث والكلام في إثبات الإمامة للحجة ابن الحسن والولادة والغيبة وعدة مسائل أخرى.
قواعد المسائل المهدوية في كتاب كمال الدين:
من المعلوم أنَّ عدد أبوب الكتاب بعد مقدمة كلامية مفصلة هي (٥٨) باباً، أغلبها في إثبات الغيبة، وقد تضمن هذا الكتاب المبارك العديد من القواعد، منها:
قاعدة الأشباه والنظائر في إثبات الغيبة: بحث الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) وقوع الغيبة في الأنبياء بما لم يتطرق إليه غيره (رحمه الله)، وهذه مسألة اختص بها (قدّس سرّه)، وهي
↑صفحة ١٩٣↑
فرع من فروع مسألة الغيبة وطريقة من طرق إثباتها من خلال وقوعها في الأنبياء (عليهم السلام) وجملة من الأولياء (عليهم السلام) وغيرهم، وهذا منهج رصين وقاعدة عامة من قواعد الإثبات تدخل تحت عمومات الأشباه والنظائر وحكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز.
قاعدة عدم الاستيحاش من طول العمر: ذكر (قدّس سرّه) فيها أخبار المعمرين لأجل عدم الاستيحاش من طول العمر في الحجة (عليه السلام).
قواعد لعدة مسائل وتفريعات: كمسألة التوقيعات وهو أوَّل من ذكرها، مسألة التشرف برؤية الحجة (عليه السلام)، مسألة العلامات، مسألة الانتظار وثواب المنتظرين، مسألة التسمية للحجة (عليه السلام). وغيرها.
يتبيَّن لك بمراجعة فاحصة حجم القواعد العامة التي تضمنها كتاب كمال الدين وأهميتها، وما ذكرناه بعضها.
النموذج الخامس: الشيخ المفيد (قدّس سرّه)، وكتبه ومؤلفاته الفقهية منها أو الكلامية أو غيرهما كثيرة جداً، والذي منها في الإمامة وخصوص الحجة (عليه السلام) وغيبته عديدة حيث ذكر فيها عدة مسائل مرتبطة بالمهدوية، ومن بين تلك الكتب المختصة، كتاب المسائل العشرة في الغيبة، وكتاب مختصر في الغيبة، وكتاب الغيبة الكبير، النقض على الطلحي في الغيبة، جوابات الفارقين في الغيبة، كتاب الجوابات في خروج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، كتاب الإفصاح في الإمامة، وكتاب الإيضاح وكتاب العمدة فيها أي الإمامة.
وملاحظة فهرست كتاب المسائل العشرة في الغيبة يتضح لك الجهد الكبير الذي بذله الشيخ المفيد (قدّس سرّه) في ضبط العديد من قواعد المسائل المهدوية، ومنها المرتبطة بمسألة الغيبة في فصول (١٠)، ومما ذكره فيها:
قواعد مرتبطة بمسألة الاستتار وأنَّها عرفية، حيث ذكر عدة شواهد عرفية عديدة على مسألة الاستتار.
↑صفحة ١٩٤↑
قاعدة في ذكر مسألة اختلاف الفرق بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) وتأثيرها على إثبات إمامة الإمام الحجة ورد ذلك، ومن ثم فصل في قضية جعفر عم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ورده لذلك، ومنها - أي القواعد المهمة في الرد - اعتراف أولاد جعفر بإمامة الحجة (عجَّل الله فرجه).
قاعدة: في مسألة دواعي إخفاء الإمام العسكري (عليه السلام) لولده، وهي من القواعد المهمة في هذا الباب والتي يندفع بها الكثير من الإشكاليات ويتبين من خلالها الدور الكبير للأئمة (عليهم السلام) وطرقهم المختلفة في التعامل مع هذه العقيدة.
قاعدة في مسألة وجوه الغيبة وأنَّها من القضايا العرفية، ورد قول من أنكر كونها خارجة عن دائرة العرف.
قاعدة مستفادة من كلمات الشيخ الصدوق (قدّس سرّه): في ذكر عدَّة غيبات للأنبياء (عليهم السلام) إذ حذا في البحث حذو الشيخ الصدوق (قدّس سرّه).
قواعد في مسألة طول العمر وكيفية إثباته، حيث ذكر في طياتها منهج الرد على المخالف فيها، وذكر عدَّة شواهد ممن طالت أعمارهم، وفي هذا البحث اقتبس من الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) وقد سار على نهجه شيخ الطائفة (قدّس سرّه) في كتاب الغيبة على ما يأتي.
قواعد في مسألة علامات الظهور، وكيفية معرفة الإمام (عليه السلام) إذا ظهر، وغير ذلك من المسائل.
النموذج السادس: السيد المرتضى (قدّس سرّه)، وكتبه عديدة، ومن بين أبرزها كتاب الشافي الذي كان رداً على محاولة القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني أن يُفند أقوال الإمامية وعقيدتهم في الإمامة بكل ما أوتي من قوة، مما دعا الشريف المرتضى (قدّس سرّه) إلى تأليف كتابه الشافي في الإمامة الذي رد فيه عليه، وأبطل حججه، ونقض كتابه المذكور، ولأهمية الكتاب ودقته نجد أنَّ
↑صفحة ١٩٥↑
نفس السيد المرتضى (قدّس سرّه) يشير إليه في كتبه الأخرى ككتاب تنزيه الأنبياء (عليه السلام) والذخيرة في علم الكلام والمقنع، وقد لخُص الكتاب من قبل الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) وأسماه تلخيص الشافي، وقام أبو الحسن البصري بنقض الكتاب، بكتاب أسماه نقض الشافي، وألف أبو يعلى سالار بن عبد العزيز (رحمه الله) كتاب (الرد على أبي الحسن البصري في نقضه كتاب الشافي في الإمامة)، نقض به كتاب البصري، وكان هذا في حياة السيد المرتضى (قدّس سرّه).
كتاب المقنع في الغيبة:
ومن كتبه المختصة بالمسائل المهدوية كتابه المقنع في الغيبة، وهو من بين أدق الكتب وأعمقها في بحث مسائل الغيبة بل وغيرها، ومما تعرض له (قدّس سرّه) في هذا الكتاب:
قواعد عديدة بحث فيها (قدّس سرّه) الأصول الموضوعة لإثبات الغيبة، ومنها:
أ - أصل وجوب الإمام والعصمة، وقد اعتمد على هذين الأصلين كل من جاء بعده (قدّس سرّه) ونجد حضورهما اللافت في كتاب الغيبة لشيخ الطائفة (قدّس سرّه)، وقد أكد (قدّس سرّه) في عدة مواضع من كتابه المقنع في مقام الرد على الخصوم من ضرورة المحافظة على أصول البحث التي وضعها في كتابه.
ب - فرعية البحث في المسائل المهدوية على الأصول: وهذه المسألة بالخصوص يظهر لي أنَّها أخذت من الشيخ ابن قبة الرازي (رحمه الله) وسار عليها أعيان الطائفة بعده، بل هو (قدّس سرّه) يصرح بنفسه اعتماد شيوخ المعتزلة على هذه الطريقة، ثم يبين مميزات هذه الطريقة، وهذا بحث غاية في الأهمية من جهة وضع القواعد والأصول في العلوم وبيان منهجية البحث وترتب الأبحاث بعضها على بعض.
قواعد مسألة علل الغيبة، وأنَّ الجهل بعلل الغيبة لا ينافي وقوعها، وهي مسألة وسّع فيها شيخ الطائفة (قدّس سرّه) في كتابه الغيبة.
↑صفحة ١٩٦↑
قاعدة مسألة الاستتار، حيث ذكر بعضاً ممن وقعت فيه وحكمتها، وبيّن سبب عدم وقوع الغيبة في الأئمة السابقين (عليهم السلام) ومن ثم بّين الفرق بين الغيبة والعدم.
قاعدة في مسألة إمكان ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) بحيث لا يمكن أن يراه أحد، وهي من القواعد المهمة في هذا الباب.
عدَّة قواعد في مسألة إقامة الحدود في الغيبة، وإمكان إقامة واستخلاف الإمام (عليه السلام) لغيره، وهذه المسألة من المسائل الحساسة خصوصاً في زماننا لما يتفرع عليها من بيان العلاقة مع الدولة وطرق إقامة الحد وصلاحيات الفقيه وغير ذلك.
قاعدة حساسة فيما لو احتجنا إلى الإمام الغائب (عليه السلام) في بيان حكم مسألة مهمة ما هو السبيل؟
قاعدة في مسألة عدم ظهور الإمام لأوليائه وبيّن أسبابها، وما هو تكليف الولي والتابع للإمام (عليه السلام) في هذا الصدد، وهي مسألة سنبحث عدة قواعد لها في آخر البحث، وذكر في هذا الباب عدة تفصيلات غاية في الأهمية لعل أغلب الباحثين فضلاً عن غيرهم لم يطلعوا عليها.
قاعدة في مسألة عدم منع الغيبة للإمام (عليه السلام) من التأثير وذكر عدة تفصيلات دقيقة في ذلك، فراجع.
قاعدة في مسألة علم الإمام (عليه السلام) في الغيبة بما يجري وحكمه.
قاعدة في مسألة كيفية معرفة الإمام (عليه السلام) بوقت ظهوره وعلى أي شيء يعتمد وفصّل فيها تفصيلاً دقيقاً(٦).
النموذج السابع: شيخ الطائفة الشيخ الطوسي (قدّس سرّه): وهو غني عن التعريف، وله العديد من الكتب والفصول في مسائل الإمامة والغيبة، مبثوثة في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦) أخي العزيز هل تعلم أنَّ هذا الكتاب العميق والدقيق مكون من (٨٧) صفحة؟!
↑صفحة ١٩٧↑
مصنفاته، وكتابه العظيم كتاب الغيبة الذي يمثل دورةً كلامية متكاملة مرتبطة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قل نظيرها، فقد جمع في هذا الكتاب، بين الاستيعاب لأغلب مسائل المهدوية، حيث فصّل فيها وذكر في أغلبها القواعد التي يصح الاعتماد عليها في إثبات المسائل المهدوية.
ومما جاء فيه من مسائل مهدوية تضمنت بيان العديد من القواعد:
قواعد تأسيس الأصل في بحث الغيبة والإمامة: وسار (قدّس سرّه) في هذه المسألة تبعاً لشيخيه المرتضى (قدّس سرّه) والمفيد (قدّس سرّه) في عدَّة مسائل مفصلة تضمنت سد ثغرات الأصل، وقد فصّل (قدّس سرّه) في عدَّة نقاط البحث في الغيبة وأحكامها بذكر حكمتها وعلتها وحدودها، وأنَّها ليست بخارقة للعادة، وأنَّ لها عدَّة نظائر، ذكر ذلك في عدة مواضع من الكتاب وليس في موضع واحد، وتبع في ذلك شيخه المفيد (قدّس سرّه).
قواعد إبطال فرق الواقفة: فقد وسع (قدّس سرّه) في رد الفرق الواقفة، وفي هذه المسألة لا يوجد نظير لما ذكره (قدّس سرّه) من حيث تأسيس الأصل وتفريع النتائج على القواعد.
قواعد إثبات الولادة: عدة قواعد ومسائل وتفريعات في إثبات ولادة الإمام الحجة (عجَّل الله فرجه) ودفع ما يعترض به عليها، ومن رأى الإمام (عليه السلام)، وذكر (قدّس سرّه) بعض معجزاته، وهذا البحث بالكيفية الموجودة في الغيبة لا نظير له قبله.
قواعد مسألة طول العمر والاستشهاد عليها: وفي هذا البحث تابع شيخه المفيد (قدّس سرّه).
قواعد مسألة الإلزامات: حيث قام بإيراد أخبار العامة والخاصة في الاثني عشر (عليهم السلام)، يتابع في ذلك الشيخ النعماني في هذه المسألة.
قواعد مسألة ذكر الغيبة قبل وقوعها: حيث ذكر لإثبات الغيبة في الحجة (عجَّل الله فرجه) بإثباتها والاستدلال عليها بالروايات الواردة من الأئمة (عليهم السلام) متابعاً في ذلك الشيخ النعماني والصدوق (قدّس سرّهما).
↑صفحة ١٩٨↑
قواعد مسألة التوقيعات المهدوية وآثارها: التوقيعات الصادرة منه (عليه السلام) وما ذكره من توقيعات لم يذكره غيره وهو العمدة فيها، ولولا ذكره (قدّس سرّه) لها لما وصلت إلينا.
قواعد السفارة والنيابة الخاصة: ذكر (قدّس سرّه) أخبار السفراء الأربعة والوكلاء العامين وهم كُثر، ثم ذكر المذمومين منهم، وفصَّل في الأربعة وذكر أخبارهم وأدلة إثبات سفارتهم، بما لم يسبق له نظير.
قاعدة في مسألة عمر الإمام (عليه السلام) وأخبار موته وهل يقتل أو يموت حتف أنفه، وهذه مسألة لم يذكره أحد قبله.
قاعدة في مسألة التوقيت للظهور، حيث ذكر شطراً من العلامات وبحث وقوع البداء فيها، وختم بمنازل الإمام (عليه السلام) وصفاته.
نكتفي بهذا القدر من استعراض القواعد في المسائل المهدوية المذكورة في كتب أعيان الطائفة (رضوان الله تعالى عليهم) من أعيان الغيبة الصغرى وأوائل الكبرى.
هذا وقد استمر ولله الحمد والمنة الجهد من علماء الطائفة وأعيانها بالكتابة والتأليف إلى زماننا الحالي، حيث برزت جملة من الأبحاث في المسائل المهدوية، بما لا يسع البحث ذكرها.
الفصل الثاني: القواعد العامة التي ينبغي الاشتغال عليها وآليات التعاطي المعرفي مع المهدوية:
المعروف ومنذ القِدَم أنَّ الخوض في كل قضية معرفية كانت أو عقائدية أو فقهية أو قرآنية أو أخلاقية أو غيرها يحتاج إلى منهج ورؤية مسبقة تتيح للباحث مساحة من الخوض في القضية التي يروم بحثها.
وبقدر إلمامه بالقواعد العامة والأُسس والضوابط ستتجسَّد تلك القدرة في ضبط التفصيلات وعدم الوقوع في المتهافتات، وبقدر هذا الضبط وما
↑صفحة ١٩٩↑
يترتب عليه، نجد الابتعاد عن هذه القواعد يؤثر سلباً في تشوش البحث وعدم انضباطه وخروج النتائج مشوهة ومجتزئة.
والبحث حول هذا الفصل يقع في عدَّة نقاط:
الأولى: تأصيل القواعد:
القضية المهدوية تشكِّل جزءاً من البناء العقائدي والكلامي في مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
ومنذ القِدَم وما قبل زمان شيخ الطائفة (قدّس سرّه) ومن زمان يونس بن عبد الرحمن (رحمه الله) وهشام بن الحكم (رحمه الله) وأضرابهم، يجد المتتبِّع في زوايا كلماتهم منهجية واضحة رصينة تنم عن جهد استثنائي وكبير بذله هؤلاء الأعاظم (رضي الله عنه) لتشييد أركان البناء العقائدي وبالخصوص في مسألة الإمامة وإمامة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، على ما تقدم في استعراض عدَّة نماذج.
وكنموذج من ذلك نلاحظ كلمات بعضهم وكيف يترجمون إلى مَنْ مَنهج المسائل وقعّد القواعد:
قال شيخ الطائفة (قدّس سرّه) في الفهرست في حق هشام (رحمه الله) (ت ١٧٩ هجرية)، عند ترجمته له: (كان من خواص سيدنا ومولانا موسى بن جعفر (عليه السلام)، وكانت له مباحثات كثيرة مع المخالفين في الأصول وغيرها.
وكان له أصل... وكان ممن فتق الكلام في الإمامة، وهذَّب المذهب بالنظر، وكان حاذقاً بصناعة الكلام...).
فلاحظ كيف وصفه بالحذاقة في هذه الصناعة وتفتيقه وتهذيبه للمسائل الكلامية ووضع القواعد لها، هذا كله ما قبل سنة (١٧٩).
ولاحظ في هذا الصدد ما قال (رحمه الله) في معرض ترجمة شيخه، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان (رضي الله عنه) (ت ٤١٣ هجرية)، قال في الفهرست: (محمد بن محمد بن النعمان المفيد، يكنى أبا عبد الله، المعروف بابن المعلم، من جملة متكلِّمي الإمامية، انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته، وكان مقدّماً في العلم وصناعة
↑صفحة ٢٠٠↑
الكلام، وكان فقيهاً متقدّماً فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، مقدماً في العلم وصناعة الكلام...).
ولم يقف الحد عند هذا القدر بل كان للحذاق منهم والأساطين كرسي لا يجلس عليه إلَّا من كان قيمّاً بهذا الأمر ومن المقتدرين فيه، لاحظ ما قاله الشيخ النجاشي (رحمه الله) في ترجمة الشيخ محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري (ت ٤٦٥ هجرية)، في الفهرست: (أبو يعلى خليفة الشيخ أبي عبد الله بن النعمان والجالس مجلسه، متكلِّم، فقيه، قيم بالأمرين جميعاً، له كتب، منها: المسألة في مولد صاحب الزمان (عليه السلام)، المسألة في الرد على الغلاة... الموجز في التوحيد...، مسألة في إيمان آباء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
والذي يتابع كلمات حتَّى المستبصر منهم كما تقدم في النماذج التي ذكرناها - كالشيخ عبد الرحمن ابن قبة يقف على منهج رصين وقدرة فائقة إلى التطبيق وضبط تفرعات المسائل.
حتَّى خرج لنا أمثال كتاب غيبة الشيخ (قدّس سرّه) وما ناظره من الكتب في هذا الصدد من تراث السيد المرتضى (قدّس سرّه) ومن قبله شيخه المفيد (قدّس سرّه).
ولكن ولفترة زمنية ليست بالقليلة عزَّ التماس وضوح المنهج والرؤية الواضحة أو امتلاك المنهجية فيما يرتبط بالقضية المهدوية - خلا عدد قليل من أعيان الطائفة وجملة من علمائها ممن كتب في مسائل المهدوية -.
فتجد بعض الباحثين وفي بحث واحد بل في مورد واحد ومسألة فاردة يضعف عدداً من الروايات لا تناسب رؤيته ويعتمد على واحدة منها ضعيفة لأنَّها تنساب رؤيته التي بنى عليها مسبقاً والتي يسعى جاهداً إلى تحشيد الأدلة عليها دونما نظر إلى آثار ترك ما يدل على غيرها، ودونما رؤية في إبطال الأدلة المخالفة لفكرته ولو تكاثرت، فيما تجد نفس هذا الباحث وفي بحث
↑صفحة ٢٠١↑
آخر يقوّي نفس هذه الأدلة التي ضعَّفها في بحثه السابق ويضعِّف ما قوّاه، لا لأجل منهجة واضحة وطريق مرسوم محدّد الملامح، بل لأجل الانتصار للفكرة ليس إلَّا.
وهذا مما يوجب ضعف البحث وتقليل حجم مؤثريته في وسط القارئ الحصيف.
فما هو الضير في الاشتغال بالمتابعة الدقيقة لكتب المشايخ كالمفيد (قدّس سرّه) والسيد المرتضى (قدّس سرّه) والطوسي (قدّس سرّه) والوقوف على منهجهم وتحريّه وتحريره واعتماده أو بعضه، بل وإخراجه بعنوانه أو بغيره، لتنتظم المنظومة المهدوية بشكل يوازي انتظام المسائل الكلامية الأخرى من التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد، بل والفقهية بعد ضبط المناهج الأصولية.
فالحري بالباحث في تفصيلات القضية المهدوية أن يمتلك - بالحد الأدنى - القراءة الدقيقة الفاحصة لكتب المشايخ - على ما تقدم في شرح معنى الدرس المهدوي - لما فيها من مخزون معرفي مرتبط بالعقيدة المهدوية مرتكز على قواعد رصينة ومبادئ صلبة تضبط البحث وتدفع اختلال النتائج، ولعلنا نوفق لاحقاً في رسم معالم هذا المنهج اعتماداً على ما ذكرناه من مصادر الأعيان المذكورين وبانضمام ما ناظرهم.
الثانية: البحث العام في تأسيس القواعد:
نتحدَّث في هذه النقطة من هذا الفصل عن إطلالة في كيفية تخريج القواعد المهدوية من خلال الاستعانة بما تم تقعيده في علم الكلام والتفسير والأصول وغيرها من العلوم، إذ ليس المقصود من بناء القواعد في العقيدة المهدوية هو البناء لها بمعزل عن القواعد العامة المذكورة في العلوم الدينية وما يدخل في بناء الأصول والقوانين العامة، كلا وحاشا، بل المقصود هو
↑صفحة ٢٠٢↑
توظيف ما هو أصيل منها، وبيان وجوه ربطه وتحليله، والجهد يكمن في كيفية توظيفه وجعله متناسباً مع محل البحث، أو في كيفية تخريجه وضبطه بعد إجراء إصلاحات عليه، وعلى سبيل المثال، لو قدر لشخص أن يكتب دروساً مهدوية ويضع منهجية ويُقعّد لبحثه القواعد الدخيلة في ضبط مسائل البحث ترى كيف سيصنع؟
نجد أنَّه سينظر وعلى سبيل المثال إلى مسائل علم الكلام، أو مسائل علم الأصول أو التفسير أو غيرهم من العلوم الدينية، وكيف تكونت، بل وإلى مسائل علم الرياضيات أو علم الهندسة أو الطب، وغيرها من العلوم، ومن ينظر كذلك سيجد أنَّ سيرة العقلاء بمعونة ما أعطته السماء، وبتراكم الخبرات وتلبية للحاجات المستجدة والمختلفة أنَّها أوجبت تطور العلوم وتفتق بعضها من بعض، وسيجد المتأمل الفطن أنَّ في هذه العلوم جملة من القوانين العامة وأخرى خاصة وتطبيقية، وأنَّ القواعد والقوانين ينقسم بعضها إلى بديهية وضرورية وإلى أخرى نظرية تحتاج إلى استدلال، وهذا هو الحال في كل صنعة وعلم وفن من الفنون والمعارف.
أمثلة على التوسعات في العلوم: مثلاً مسألة الاستصحاب لم تكن ولطيلة قرون من القواعد العامة، ثم صارت قاعدة أصولية عامة لا يمكن الاستغناء عنها، وأصبحت لها تفريعات عديدة وتفصيلات مختلفة وأُلحق بها العديد من التنبيهات والتفصيلات الموسعة والمعمقة.
فصار أصل كون الاستصحاب في زماننا من الأصول العملية من الضرورات ومواطن البحث فيه إنَّما في تفاصيله وتفريعاته وتنوع الأدلة الدالة على اعتبار حجيته.
فيما نجد بعض المسائل التي كانت رائجة ومحل بحث موسع في هذا العلم مما لا يكاد يبحث في زماننا كبحث الانسداد وغيره.
↑صفحة ٢٠٣↑
وهكذا في مسائل علم الكلام نجد أنَّ بعض مسائله باتت خارج دائرة الاستدلال عليها لتبدّهها، ومسائل أخرى خرجت منه أو كادت، ولم تعد تبحث فيه كبعض الصفات التي كانت مثار بحث واسع كصفة القِدم مثلاً.
فيما نجد مسائل أخرى شكلت ولا تزال محور بحث دائم نظير صفة العلم والحياة والقدرة.
وهناك مسائل وبحوث أخرى أُضيفت إليه وصارت محوراً لجملة من مسائله كما أشير إليه في مسائل ما يُعرف بعلم الكلام الجديد أو المعاصر.
وهكذا في المسائل الفقهية حيث خرج منها - أو كاد - مسائل بحث الآبار وبحث الرق والعبودية وما يتفرع عليه من مسائل، ودخل فيه مسائل لم تكن منه كبحث العديد من المسائل المرتبطة بالطب الحديث وأحكام البنوك ومسائل حفظ النظام ومنظومة العلاقات الدولية والنظم العامة، دخلت بشكل لافت وموسع.
وهكذا في مسائل بقية العلوم غير الدينية كعلم الطب والرياضيات والهندسة، فقد توسعت وخرج منها الكثير ودخل فيها أكثر مما خرج منها.
بل وجود علوم حديثة مستقلة مما لا يكاد يخفى كعلم الاتصالات والبرمجيات وما يرتبط بها ويتفرَّع عليها.
وهي علوم لها قواعدها وأصولها المُبينة في مواطنها.
والقواعد العامة في المسائل المهدوية موجودة وإن لم تجمع تحت عنوان مستقل ولم تفرد بكتاب خاص تلحظ فيه كمجموعة، نعم المُتتبع يجد هذه القواعد مبثوثة ومتناثرة في أمهات كتب القدماء من أعيان الطائفة (قدّس سرّهم) ممن أشرنا إلى بعضهم.
الثالثة: القواعد في المهدوية:
من بين أهم تلك القواعد سواء كانت متداخلة مع علوم أخرى أو مختصة بعلم المهدوية:
↑صفحة ٢٠٤↑
أ - القواعد العامة: المسائل المهدوية من جهات عديدة مشابهة للمسائل الكلامية والتفسيرية، بل وبعض الفقهية، في اعتمادها على قواعد مشتركة تبحث في علوم أخرى مستقلة عن علمها، كعلم الأصول مثلاً أو علوم الحديث.
فالدارس للمسائل المهدوية يأخذ مسائله المرتبطة بعلوم الحديث من هناك، بعد أن يكون له نظر خاص فيها ليتجنب الوقوع في التقليد - لمن يريد التخصص -، وكذلك المسائل المرتبطة بعلم الأصول أو غيره من علمي التفسير أو الكلام.
فمسائل المهدوية إنَّما يثبت جملة وافرة منها بنفس الطرق التي تثبت بها المسائل الكلامية في بحث التوحيد والنبوة والإمامة، فمسائل المهدوية وإن كانت واسعة إلَّا أنَّها تبقى فرعاً على بحث الإمامة، كما أنَّ مسائل الصفات الإلهية وإن توسعت تبقى فرعاً على توحيد الذات، وكذلك المسائل المرتبطة بصلاة المسافر وإن توسعت فهي فرع من بحث الصلاة التي فرع من فروع الدين، وهكذا مسائل بيع الفضولي وإن توسعت تبقى فرعاً من مسألة البيع التي هي فرع من فروع مسائل المعاملات، وهكذا.
فضرورة وجود الإمام (عليه السلام) في كل زمان وعصمته ونوع علمه وصفاته وخصائصه، مما بحثت مفصلاً في علم الكلام، والذي يعتمد بدوره كثيراً على علوم الحديث، ومسائل من هذا القبيل وإن كانت مهدوية بالمعنى الأخص لكن أدوات بحثها تؤخذ كأصول موضوعة، إمّا من علوم الحديث أو علم الكلام أو علم الأصول أو غيرها من العلوم الأخرى، ويقوم الدارس للمسائل المهدوية بتطبيقها هنا، هذا بعد أن يكون قد امتلك النظر الخاص في تلك المسائل وإلَّا كان مقلداً لغيره.
ب - القواعد الخاصة: وهي عديدة، نذكر منها جهات أربع - بحسب التصنيف الذي نعتمده -، وهذا التربيع ليس حصرياً، فيمكن لمتخصص آخر
↑صفحة ٢٠٥↑
تخميسها أو تثليثها حسب ما يعتمده من منهجية بحثية وقدرة في ضبط المسائل وتفريعاتها وما يمتلكه من إحاطة فهرسية في ما يدخل في كل باب، والجهات، هي:
الجهة الأولى: قواعد مسائل الإمامة الخاصة والولادة والغيبة: هذه مسائل مهدوية ثلاث وهي من كبريات مسائل المهدوية، وهي الإمامة الخاصة للإمام الحجة (عجَّل الله فرجه)، ومسألة ولادته وقواعدها، ومسألة غيبته وقواعدها، وهذه الجهة تقع في فصول ثلاثة، وكل فصل منها له قواعده العامة المشتركة مع غيره بالمعنى المتقدم، وله قواعده الخاصة، بل بعض مسائل الفصول تختص بقواعد تخصها.
وفصول هذه الجهة (الثلاث) ترتبط بجملة قواعد عقلية وعقلائية وقرآنية وحديثية، وغيرها.
ومما يتفرع على فصل الإمامة بحث معناها وحدودها وأدلتها ودفع الشبهات المثارة حولها، هذا كله في غير الزوايا العامة من بحث الإمامة، أمَّا فيما يرتبط بالبحوث العامة للإمامة فيمكن بيان القواعد فيها بنحو الأصل الموضوعي والإشارة إلى مواطن بحثها هناك، كما فعل السيد المرتضى (قدّس سرّه) في كتاب الشافي، وشيخ الطائفة (قدّس سرّه) في غير واحد من كتبه، وعلى رأسها الغيبة، على ما مرَّت الإشارة إليه.
ومما يتفرَّع على فصل الولادة بيان عدَّة قواعد لعدَّة مسائل منها: كيفية الإثبات بالأدلة العامة أو الخاصة ومتى وقعت وجملة من تفصيلاتها ومن قال بها ورد شبهات من أنكرها وما يرتبط بهذا البحث من تفصيلات.
ومما يتفرَّع على فصل الغيبة من هذه الجهة على سبيل المثال عدة مسائل، منها: تعريف الغيبة وانقساماتها والقاعدة في الانقسام والآثار المترتبة على التقسيم والأدلة التي سيقت للإثبات، وفي خصوص الغيبة الصغرى منها بحثت العديد من المسائل المهدوية ووضعت لها جملة من القواعد، من
↑صفحة ٢٠٦↑
قبيل: مسألة أصل النيابة الخاصة وحقيقة السفارة وحدود صلاحيات السفير ومكانته العلمية وأدلة إثبات سفارته، مع ملاحظة عدم اشتراك بحوث الغيبة بجهة النيابة، والتنبيه على الفارق بين الجهتين.
نماذج من قواعد هذه الجهة ذكرها بعض الأعلام (قدّس سرّه):
الاستدلال على إثبات الإمامة من جهة الغيبة: تقريب الدليل: لقد دلَّت الروايات المتواترة على أنَّ هناك غيبة ستقع في شخص الثاني عشر من ذرّيَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ذكرها العلماء وأُلِّفت فيها الكُتُب، ككتاب (الغيبة) للشيخ الطوسي والنعماني، وكمال الدِّين للصدوق، وغيرهم.
وأنَّها ستقع حتماً، وصارت حديثاً للخاصِّ والعامِّ قبل ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه).
فلو لم تصدق هذه الغيبة بوقوعها لاستلزم تكذيب الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة من ذريته (عليهم السلام).
فتكون الغيبة المخبَر بها قبل وقوعها دليلاً على إمامته (عجَّل الله فرجه).
يقول رضي الدِّين أبو القاسم عليُّ بن موسى بن طاووس (قدّس سرّه): (واعلم يا ولدي محمّد - ألهمك الله ما يريده منك ويرضى به عنك - أنَّ غيبة مولانا (المهدي) (صلوات الله عليه) التي حيَّرت المخالف والمؤالف هي من جملة الحُجَج على ثبوت إمامته وإمامة آبائه الطاهرين (صلوات الله على جدِّه محمّد وعليهم أجمعين)، لأنَّك إذا وقفت على كُتُب الشيعة أو غيرهم مثل كتاب الغيبة لابن بابويه، وكتاب الغيبة للنعماني، ومثل كتاب الشفاء والجلال، ومثل كتاب أبي نعيم الحافظ في أخبار المهدي ونعوته...، وجدتها أو أكثرها تضمَّنت قبل ولادته أنَّه يغيب (عليه السلام) غيبة طويلة حتَّى يرجع عن إمامته بعض من كان يقول بها، فلو لم يغب هذه الغيبة كان طعناً في إمامة آبائه وفيه، فصارت الغيبة حجَّة لهم (عليهم السلام) وحجَّة على مخالفيه في ثبوت إمامته وصحَّة غيبته)(٧).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧) كشف المحجَّة لثمرة المهجة (ص٥٣).
↑صفحة ٢٠٧↑
وذكر هذا الدليل أيضاً الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) في (الغيبة) بتقرير قريب ممَّا ذُكِرَ هنا، وقال: (وهذه أيضاً طريقة معتمدة اعتمدها الشيوخ قديماً)(٨).
وهذا الدليل مرتبط بمسألة الغيبة ولا يبحث في غيرها فهو من مسائل الغيبة وقاعدة من قواعدها بامتياز.
نموذج آخر طريق السبر والتقسيم: مقدمات الدليل: المقدمة الأولى: وهذه المقدمة كلامية ومبحوثة في أصل الإمامة مفصّلاً، وحاصلها: إذا ثبت وجود الإمام (عليه السلام) في كل حال، وأنَّ الناس بعد كونهم غيرَ معصومين فلابد من وجود إمام في كل وقت من الأوقات وشرائط الإمامة هي: أن يكون الإمام (عليه السلام) معصوماً وأن تثبت عصمته بدليل قطعي، وأن يكون الإمام (عليه السلام) موجوداً ولا يفرق في وجوده بين أن يكون ظاهراً معروفاً وحاضراً بين الناس ومشهوراً يشار إليه، أو أن يكون الإمام غائباً مخفياً مستوراً عن الناس يدير شؤونهم ويراهم ويعرفهم ولا يرونه.
وهذه النقطة محل بحثها الغيبة ولا تبحث في غيرها فهي من مسائل الغيبة وقاعدة من قواعدها بامتياز.
المقدمة الثانية: إذا علمنا بمقدمات خارجية أنّ كل من يدّعي الإمامة أو تدّعى له هو ليس بمعصوم، ولا يوجد دليل يدل على عصمته، لأنَّ أفعال من ادُّعيت لهم الإمامة تتنافى - وبالوجدان -، فنعلم من خلال ظاهر أحوالهم المنافية للعصمة أنَّ هؤلاء ليسوا بأئمة، ومع عدم كونهم أئمة، ومع لزوم الإمامة في كل زمان وفي كل وقت فلابد أن يكون الإمام غائباً مستوراً عن الناس.
وهذه القاعدة مما لم تبحث في غير المسائل المهدوية، فهي من القواعد المختصة.
والنتيجة من هذا الدليل إنّنا سنثبت صحة إمامة الحجة ابن الحسن (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨) الغيبة للطوسي (ص١٥٧ و١٥٨).
↑صفحة ٢٠٨↑
وصحة غيبته وصحة ولادته بعد بطلان دعوى هذه الفرق، وقد فصّل شيخ الطائفة (قدّس سرّه) هذه الطريقة في عدد غير قليل من صفحات كتابه الغيبة.
نموذج ثالث، طريق الفرعية: وهو ما اعتمده شيخ الطائفة (قدّس سرّه) في مقدمتين:
الأولى: الكلام في إمامة الإمام الحجة بن الحسن (عجَّل الله فرجه) هو فرع ثبوت إمامته، فلابد من البحث مسبقاً عن إمامته وإثباتها بالطرق المعتمدة برهانياً وجدلياً ثم الاستدلال بها كأصل مفروغ عنه في مسألتنا.
لأجل هذه المقدمة سمّينا هذا الطريق بالفرعية لورود كلمة (فرع) في كلام شيخ الطائفة (قدّس سرّه).
الثانية: المخالف لنا: إمّا أن يسلِّم لنا بإمامة الحجة بن الحسن (عجَّل الله فرجه) ويسأل عن سبب غيبته وهنا يجب علينا إجابة هذا المخالف وبيان أدلة غيبة الحجة بن الحسن (عليه السلام)، فَتَكَلُّفُ جواب المخالف فرعٌ على تسليمه لنا بإمامة الإمام الحجة بن الحسن (عليه السلام) ولو جدلاً ومجاراةً لنا. أو لا يسلم لنا بإمامته وهنا لا معنى لسؤاله لنا عن غيبته إذ لا معنى للبحث في أدلة غيبةِ مَن لم تثبت إمامته.
وهذه الطريقة لا تبحث في غير مسائل المهدوية، فهي قاعدة من قواعدها.
الجهة الثانية: قواعد مسائل النيابة في الغيبتين: وهي جهة مترتِّبة على أصل الغيبة، وبعض مسائلها تقدّم ذكرها فيما سبق لارتباطها بأصل الغيبة، ويمكن تقسيم هذه الجهة إلى فصلين: فصل الغيبة الصغرى، وفصل الغيبة الكبرى.
ومن العناوين العامة في بحث النيابة: تعريف النيابة بحسب الزمان، أقسامها، مصاديق النيابة والسفارة في الغيبة الصغرى، أدلة إثبات النيابة للنائب، حدود وصلاحيات النائب، مقامات النواب، حدود حجية النواب، دار الوكالة والنيابة.
↑صفحة ٢٠٩↑
حقيقة التوقيعات وحجيتها، طرق وصولها وعددها، الآثار المترتبة عليها، وغير ذلك.
النيابة في عصر الغيبة الكبرى، الأدلة على النيابة العامة، حدود وصلاحيات الفقهاء، المسائل المتفرِّعة على بحث النيابة العامة من حفظ النظام ومنظومة الحقوق والنظام المالي والإداري والاجتماعي وغيرها.
وفي الفصلين العديد من المسائل التي تحوي جملة غير قليلة من القواعد.
الجهة الثالثة: قواعد مسائل العلامات: وتقسيماتها وحجيتها وتطبيقاتها - التطبيق والتوقيت - وضبطها وإحكامها، وما هو دور المؤمنين تجاه هذه العلامات ودورهم تجاه من يطبقها خطأ، وهو بحث تفرع عليه العديد من المسائل الابتلائية، ويختص بجملة من القواعد والأصول المتناثرة في عدَّة علوم ومسائل.
الجهة الرابعة: قواعد مسائل الدولة والرجعة: وهو بحث في غاية السعة والأهمية وتفرّع عليه عدَّة مسائل وتفصيلات مهمة ذكرت في محلها، من بحث دولته ومدتها وحال الناس فيها وحال الأديان والرجعة وتفصيلاتها، وكل واحدة من هذه المسائل تخضع للعديد من القواعد والأصول الخاصة أو العامة.
الفصل الثالث: نماذج من تطبيقات حول القواعد المهدوية:
حول الوظيفة تجاه الإمام (عجَّل الله فرجه) في الغيبة:
التطبيق الأول: في وجوب نصرة الإمام (عليه السلام) للقيام بوظيفته:
ولأجل تحرير محل النزاع - في البحث - لابد أن نلفت النظر إلى أهمية ضبط المفاهيم التي إن اختلَّ البحث فيها - لأسباب ترتبط بذات المفهوم تارة وبالأدلة عليه أو بما يلحقه من أحكام أخرى - فسيختلّ البحث برمَّته وسنتَّجه في بعض الأحيان عكس الاتِّجاه المطلوب.
↑صفحة ٢١٠↑
في محل كلامنا قد نتَّفق على معنى النصرة - وما يرادفها من المعاني - عرفياً أو اصطلاحياً، ولكن قد نختلف من جهة متعلقها، فالنصرة للإمام الظاهر مما لا شك في ثبوتها بجميع مراتبها، إلَّا أنَّه قد يتوقف البعض في إثبات بعض المراتب تجاه الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه).
في محل البحث نلحظ أن النصرة وما يرادفها(٩)، ثابتة للإمام (عجَّل الله فرجه) بشخصه وبنفس درجة ثبوتها للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(١٠)، أو من ينص عليه الإمام (عليه السلام)، ولا مجال لفتح الباب لاستغلالها من قبل البعض بأي نحو من الأنحاء، فما ارتفع من مراتب النصرة له (عليه السلام) يوجب أن ننتقل إلى غيرها من المراتب التي بعدها لا أن ننتقل بها - أي بهذه المرتبة من النصرة - إلى غيره، فكن على وعي وحيطة.
في محل الكلام نريد التعرُّض إلى نصرة الإمام (عجَّل الله فرجه) في غيبته وقبل ظهوره، وهل تجب بجميع مراتبها، وما هي المراتب التي ترتفع بغيبته، نسأله تعالى أن نوفَّق إلى بيان الحال في هذا المقال.
يقع البحث في بيان عدَّة قواعد متسلسلة:
القاعدة الأولى: قاعدة أنَّ نصرة الإمام (عجَّل الله فرجه) على أساس المزج بين الغيب والبشرية:
ترى هذه النظرية(١١) - خلافاً لنظرية البشرية أو الغيب المحض - أنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩) من الإعداد والاستعداد أو التمهيد، قال في لسان العرب: ج٥، ص٢١٠: النصر: إعانة المظلوم، نصره على عدوه ينصره؛ قال شيخ الطائفة (قدّس سرّه) في التبيان: ج٢، ص١٩٩: والنصرة ضد الخذلان.
(١٠) جاء في الكافي: ج١، ص٣٢٣، بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال [الله تعالى]: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الطور: ٢١]، قال: «﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وذريته الأئمة والأوصياء (صلوات الله عليهم)، ألحقنا بهم ولم ننقص ذريتهم الحجة التي جاء بها محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام) وحجتهم واحدة وطاعتهم واحدة». وفيه أيضاً، ص٢٣٥: (عن معمر بن خلاد، قال: سأل رجل فارسي أبا الحسن (عليه السلام) فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال: «نعم»، قال: مثل طاعة علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ فقال: «نعم».
(١١) تعرضنا لبحث النصرة بشكل مفصل في بحث نشر في مجلة الموعود التخصصية العدد ١٧ فراجع.
↑صفحة ٢١١↑
قيام الإمام وحركته في إدارة شؤون الناس، بل ودولته (عجَّل الله فرجه) تعتمد على عنصر الغيب كما تعتمد على الناس ونصرتهم له قبل ظهوره (عجَّل الله فرجه) وفي الأثناء وبعده، وإن اختلفت مراتب النصرة وظروف الحاجة إليها، وحسب قدرة الأفراد ومقدار نصرتهم، فمفردات النصرة والتمهيد والإعداد والانتظار مفردات مرضية ومقبولة وتعبر عن واقع يعيشه المؤمن الذي يترقب ظهور الإمام (عليه السلام) - صباحاً ومساءً - وإن لم يتحقق ذلك فأمله لا ينقطع عند الرجعة.
القاعدة الثانية: تفرع وجوب الطاعة على ضرورة المعرفة للإمام (عليه السلام): ذكرت العديد من الأدلة الدالة على وجوب البحث عن الإمام (عليه السلام)، والمتضمنة لوجوب طاعته ونصرته، ومن عناوينها:
* دفع الضرر: قال شيخ الطائفة (قدّس سرّه)(١٢) في تلخيص الشافي: (أمّا بعد، فإنِّي رأيت أهمّ الأمور وأولاها، وآكد الفرائض وأحراها للمكلف - بعد النظر في طريق معرفة الله تعالى - وصفاته، وتوحيده... وهو الإمامة التي لا يتم التكليف عن دونها، ولا يحسن مع ارتفاعها)، وقد ذكرت (٨) أدلة على وجوب البحث عن الإمام الحجة (عليه السلام) في الجزء الأوَّل من دروس في شرح كتاب الغيبة لشيخ الطائفة (قدّس سرّه).
ورد عن هشام، قال(١٣): كنت عند الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين، فقال له معاوية بن وهب:... «وأدنى معرفة الإمام أنَّه عدل النبي إلّا درجة النبوة ووارثه، وإنَّ طاعته طاعة الله وطاعة رسول الله والتسليم له في كل أمر والرد إليه والأخذ بقوله، ويعلم أنَّ الإمام بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم أنا ثم من بعدي موسى ابني ثم من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢) تلخيص الشافي - الشيخ الطوسي: ج١، ص٦١.
(١٣) كفاية الأثر - الخزاز القمي: ص٢٨٧.
↑صفحة ٢١٢↑
بعده ولده علي وبعد علي محمد ابنه وبعد محمد علي ابنه وبعد علي الحسن ابنه والحجة من ولد الحسن». ثم قال: «يا معاوية جعلت لك في هذا أصلاً فاعمل عليه...».
بل فصَّلت النصوص والروايات أكثر من ذلك، فبيَّنت حال من يضعف عن النصرة ماذا يفعل، ففي البحار(١٤): قال جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] يقول: «أرشدنا للصراط المستقيم، أي أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك والمانع أن نتبع أهواءنا فنعطب ونأخذ بآرائنا فنهلك»، ثم قال الصادق (عليه السلام): «طوبى للذين هم كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»، فقال له رجل: يا بن رسول الله، إني عاجز ببدني عن نصرتكم، ولست أملك إلَّا البراءة من أعدائكم واللعن، فكيف حالي؟
فقال له الصادق (عليه السلام): «حدَّثني أبي عن أبيه عن جدِّه عن رسول الله (صلوات الله عليهم) أنَّه قال: مَن ضعف عن نصرتنا أهل البيت فلعن في خلواته أعداءنا بلغ الله صوته جميع الأملاك من الثرى إلى العرش، فكلما لعن هذا الرجل أعداءنا لعناً ساعدوه ولعنوا من يلعنه ثم ثنوا فقالوا: اللَّهم صل على عبدك هذا الذي قد بذل ما في وسعه، ولو قدر على أكثر منه لفعل، فإذا النداء من قبل الله (عزَّ وجلَّ): قد أجبت دعاءكم وسمعت نداءكم وصليت على روحه في الأرواح وجعلته عندي من المصطفين الأخيار...».
القاعدة الثالثة: لزوم النفر إلى الإمام (عليه السلام):
وردت العديد من الروايات في بيان ما ينبغي على الناس القيام به بعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤) بحار الأنوار - العلامة المجلسي: ج٢٧، ص٢٢٥.
↑صفحة ٢١٣↑
مضي الإمام السابق (عليه السلام) وكيفية البحث والتحري عن الإمام اللاحق (عليه السلام) رغم شدة الظروف وقساوة الظلمة ورصدهم لأدق التحركات في هذا الصدد، وقد بوَّب الشيخ الكليني (رضي الله عنه) في هذا المعنى باباً تحت عنوان: ما يجب على الناس عند مضي الإمام (عليه السلام)، مما جاء فيه(١٥):
ما رواه بسنده عن يعقوب بن شعيب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا حدث على الإمام حدث، كيف يصنع الناس؟
قال: «أين قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢]»؟ قال: «هم في عذر ما داموا في الطلب وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر، حتَّى يرجع إليهم أصحابهم».
يتبيَّن لك مما تقدم أنَّ طلب الإمام ولزوم البحث عنه، لا رخصة فيها ويجب النظر لتحصيلها، فهذه الضرورة تحتم البحث والتقصي واستبيان الحال ولا خصوصية لذاك الزمان عن هذا سوى الغيبة، التي قد ترفع بعض مراتب النصرة لا جميعها.
القاعدة الرابعة: إطلاق لزوم التمكين للإمام (عليه السلام):
ذكرت مفردة التمكين والنصرة على لسان العديد من علماء الطائفة، وليس في خصوص الخطاب الخاص بالإتباع، بل حتَّى في موارد الحجاج مع الخصوص، مما يعكس كونها مفردة من المفردات الراسخة والمعروفة في الطائفة حتَّى عدت لوضوحها من المفردات التي يصح الاحتجاج بها مع الخصوم، وممن ذكر ذلك جماعة، منهم:
قال السيد المرتضى (قدّس سرّه)(١٦) في فصل: (الدلالة على وجوب الرياسة في كل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥) الكافي - الشيخ الكليني: ج١، ص٤٢٨.
(١٦) الذخيرة في علم الكلام - الشريف المرتضى: ص٤١٦.
↑صفحة ٢١٤↑
زمان): (وقد خلق الله تعالى إمام الزمان (عليه وعلى آبائه الصلاة والسّلام)، ونصّ الإمامة على عينه، ودلَّ على اسمه ونسبه، بالأدلة القاطعة، وحثّ على طاعته، وتوعّد على معصيته.
فأمّا الأمور التي لا يتم مصلحتنا بالإمام إلَّا بها وهي راجعة إلى أفعالنا، وهي تمكين الإمام والتخلية بينه وبين ولايته، والعدول عن تخويفه وإرهابه، ثم طاعته وامتثال أوامره.
فإذا لم يقع منّا تمكين الإمام وأخفيناه وأخرجناه إلى الاستتار تحرزاً من المضرة، ثمّ نخرج(١٧) من أن نكون مزاحي العلة في تكليفنا، وكان تعذر انتفاعنا بهذا الإمام منسوباً إلينا، ووزره عائداً علينا، لأنّا لو شئنا أملكناه وآمنّاه، فيتصرف فينا التصرف الذي يعود بالنفع علينا).
وقال (قدّس سرّه)(١٨): (فأمّا قوله: (إنَّه إنَّما يجب أن يحارب معه لو طلب ذلك معه وتشدد عليه) فقد بينّا أنَّ نصرة الإمام واجبة من حيث كان إماماً وإن لم يطلب هو النصرة. وذكرنا أنَّ الحال التي كان دفع إليها مستدعية للنصرة من كل مسلم لتضايقها وشدَّتها أو ما كفى الزبير في طلبه (عليه السلام) النصرة كتبه النافذة إلى الآفاق يستنصر فيها ويستصرخ ويدعو الناس إلى القتال معه).
وقد يقال: إنَّ هذا المقطع لا دلالة فيه على عموم النصرة حتَّى في زمان الغيبة، والذي هو محل كلامنا، فالنصرة مختصة بزمان حضوره، بل لعلها مختصة بأمير المؤمنين (عليه السلام).
ولكننا نقول: اختصاص النصرة بأمير المؤمنين (عليه السلام) مما لا وجه له بالمرة بعد تصريحه (قدّس سرّه) بأنَّ النصرة للإمام من حيث إنَّه إمام، فهي واجبة لحيثية الإمام، وبنفس هذه الحيثية ترتفع خصوصية الغيبة إذ ملاك النصرة هو عنوان الإمامة ولا مدخلية للغيبة كمانع عنها، خصوصاً مع تصريحه بلزوم نصرة الإمام (عليه السلام) كما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧) هكذا في المصدر وعدة نسخ ولعل المقصود به أن خروجنا عن عهدة النصرة وإزاحة العلة لا يكون...
(١٨) الشافي في الإمامة - الشريف المرتضى: ج٤، ص٣٤٦.
↑صفحة ٢١٥↑
في المقطع المتقدم بل وما يأتي منه ومن شيخ الطائفة (قدّس سرّهما).
وقال (قدّس سرّه) في الشافي(١٩): (وبينّا أنَّ سبب الغيبة هو فعل الظالمين، وتقصيرهم فيما يلزم من تمكين الإمام فيه والإفراج بينه وبين التصرف فيهم، وبينّا أنَّهم مع الغيبة متمكِّنون من مصلحتهم بأن يزيلوا السبب الموجب للغيبة ليظهر الإمام، وينتفعوا بتدبيره وسياسته).
قال أبو الصلاح (رحمه الله)(٢٠): (كيفية الجمع بين فَقْد اللطف بعدم ظهوره وثبوت التكليف) وأمّا فَقْد اللطف بظهوره متصرفاً ورهبة لرعيته مع ثبوت التكليف الذي وجوده مرهوباً لطف فيه مع عدمه، فإنَّ اختصاص هذا اللطف بفعل المكلف لتمكنه من إزاحة علة نفسه بمعرفة الحجة المدلول على وجوده وثبوت إمامته وفرض طاعته وما في ذلك من الصلاح وقدرته على الانقياد، وحسن تكليفه مع تمكين الإمام وإرهابه أهل البغي لطف فيه... وتكليفه لازم له وإن فقد لطفه بالرئاسة، لوقوف المصلحة في ذلك على إيثاره معرفة الإمام والانقياد له باختياره دون إلجائه) وكذلك قال به شيخ الطائفة (قدّس سرّه) في عدَّة مواضع(٢١).
وكذا قال (قدّس سرّه)(٢٢) وقال (قدّس سرّه) في الغيبة(٢٣)، وقال به العلامة (قدّس سرّه)(٢٤).
وكذا قال الشيخ علي بن يونس (رحمه الله)(٢٥) والشهيد الأول (قدّس سرّه)(٢٦) والشيخ العراقي (قدّس سرّه)(٢٧).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩) الشافي في الإمامة - الشريف المرتضى: ج٣، ص١٥٠.
(٢٠) تقريب المعارف - أبو الصلاح الحلبي: ص٤٤٢.
(٢١) تلخيص الشافي - الشيخ الطوسي: ج١، ص١٠٩.
(٢٢) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٣٩.
(٢٣) الغيبة - الشيخ الطوسي، ص١١٧
(٢٤) الألفين - العلامة الحلي: ص١٠٥.
(٢٥) الصراط المستقيم - علي بن يونس العاملي النباطي البياضي: ج١، ص٦٤.
(٢٦) القواعد والفوائد - الشهيد الأول: ج١، ص١٤١.
(٢٧) قاعدة لا ضرر ولا ضرار - تقرير بحث آقا ضياء للسيد الخلخالي: ص٢٨.
↑صفحة ٢١٦↑
إن قلت: وجوب تمكين الإمام (عليه السلام) ونصرته على الأُمَّة عام وينصرف إلى خصوص زمان حضوره، فلا يشمل مورد كلامنا وأنَّ النصرة واجبة في زمان الغيبة وقبل الظهور.
قلت: هذا الانصراف لا معنى له بعد عموم الدليل وعدم وجود مخصص صريح يخصص زمان النصرة بزمان دون زمان أو حال دون حال ولو في القدر المتيقَّن من النصرة بل صريح كلام السيد المرتضى وشيخ الطائفة (قدّس سرّهما) لزوم النصرة للإمام الغائب (عجَّل الله فرجه).
وقد مرَّ آنفاً عدم اختصاص نصرة الإمام (عجَّل الله فرجه) ووجوبها على الأُمّة في زمان حضوره، نعم مراتب النصرة تختلف باختلاف الأزمان.
تفصيل وتنبيه: أقسام النصرة ومراتبها: لنصرة الإمام (عليه السلام) عدَّة مستويات تختلف باختلاف زمان وجوده بين الناس، وباختلاف الظروف وما يريده (عليه السلام) من الناس، ففي زمان ظهور رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت النصرة مطلوبة بكل مراتبها: كاللسان والمال والنفس وكل شيء، ومما دلَّ على وجوب نصرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل الأنبياء (عليهم السلام) عدَّة آيات مضافاً لما تقدَّم، منها:
قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إلى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ﴾ (الصف: ١٤).
قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (آل عمران: ٨١).
قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ
↑صفحة ٢١٧↑
مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف: ١٥٧).
بينما نجد في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) ولتخلُّف عموم الناس عن أهم مراتب النصرة لم يتحقق من نصرته (عجَّل الله فرجه) ما كان متحققاً في زمان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سوى من بعض الأنفار ممن بقوا معه وكانت نصرة كل واحد منهم له (عليه السلام) مختلفة عن الآخر على ما هو المعروف بقصة حلق الرؤوس، وحاله (عليه السلام) معلوم لجميع المسلمين بلزوم نصرته، حتَّى أنَّه دار على القوم بزوجته وأطفاله وهم خيرة الأرض والسماء.
ذكر ابن أبي الحديد في شرحه ما لفظه(٢٨): (إنَّه (عليه السلام) لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه وكان يحمل فاطمة (عليها السلام) ليلاً على حمار وابناها بين يدي الحمار، وهو (عليه السلام) يسوقه فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم، ويسألهم النصرة والمعونة، أجابه أربعون رجلاً فبايعهم على الموت وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم، فأصبح لم يوافه منهم إلّا أربعة: الزبير والمقداد وأبو ذر وسلمان، ثم أتاهم من الليل فناشدهم فقالوا: نصبحك غدوة، فما جاءه منهم إلّا أربعة، وكذلك في الليلة الثالثة وكان الزبير أشدّهم له نصرة وأنفذهم في طاعته بصيرة، حلق رأسه وجاء مراراً وفي عنقه سيفه، وكذلك الثلاثة الباقون، إلّا أنَّ الزبير هو كان الرأس فيهم).
وحال الإمام الحسن (عليه السلام) مما لا يخفى على العام فضلاً عن الخاص.
أمّا حال شهيد كربلاء (عليه السلام) وسبط خير الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في طلبه للنصرة مع معلومية شهادته وحكاية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لها، ومن مواطن طلبه للنصرة وهي عديدة، منها: قوله (عليه السلام)(٢٩): «هل مِن ذابٍّ يذبُّ عن حُرم رسول الله؟ هل من موحِّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨) شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد: ج١١، ص١٤.
(٢٩) بحار الأنوار - العلامة المجلسي: ج٤٥، ص٤٨.
↑صفحة ٢١٨↑
وهكذا الحال في بقية الأئمة (عليهم السلام) وحالهم في خذلان أغلب الناس لهم وعدم نصرتهم معلوم لمن سبر غور التاريخ.
إن قلت: إنَّ النصرة التي كانت مطلوبة في زمان الأئمة والأنبياء (عليهم السلام) مختصة بزمان حياتهم، ولا تشمل حال الغيبة لعدم ظهور الإمام الواجب نصرته فيها.
قلت: صحيح أنَّ الإمام في زمان الغيبة ليس بظاهر بين الناس، ولكن هذا لا يعني انتفاء جميع مراتب النصرة، فإنَّ النصرة لها مراتب عديدة، وفي كل مرتبة منها أدوار مختلفة تتناسب مع حال الأشخاص والظروف المحيطة بهم وإمكاناتهم واستعداداتهم، وما لا يدرك كله لا يترك جُلُّه، ومن مراتب النصرة: اللسان، وإن لم يتيسر فنصرة القلب مقدورة للجميع وبدون استثناء.
وهل يا ترى يصح أن يقال: إنَّ الإمام (عليه السلام) غائب، فلا تجب معرفته، ولا يلزم الإيمان به؟
فكما أنَّ لمعرفة الإمام (عليه السلام) مراتب، فكذا لنصرته.
شواهد ومؤيدات: الانتظار ومراتب النصرة والإعداد:
بعد وضوح ضرورة غيبة الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) من الأئمة (عليهم السلام)، تكاثرت الأسئلة من الأصحاب عن الوظيفة في الغيبة وما هي؟
وهذه الأسئلة تكشف بوضوح أنَّ في البين وظيفة محدَّدة للأتباع تجاه كل إمام من الأئمة (عليهم السلام)، نعم هذه تختلف من إمام إلى آخر، بحسب اختلاف الظروف وما يقتضيه الحال، ومتابعة فاحصة لروايات الانتظار التي قد يقال بتواترها الإجمالي إنْ لم يك المعنوي، ينكشف لنا أنَّ الانتظار هو واحدة من مراتب النصرة للإمام (عجَّل الله فرجه)، بل له عدَّة مراتب، فلاحظ بعض روايات الانتظار(٣٠).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠) قد فصلنا الحديث حولها في البحث المشار إلية آنفاً.
↑صفحة ٢١٩↑
نكتفي بواحدة منها، وهي ما جعلت النية فيه تقوم مقام الإصلات بالسيف، وهي من درجات النصرة الانتظارية: في الوسائل(٣١): عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال في خطبة له: «الزموا الأرض، واصبروا على البلاء، ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم، ولا تستعجلوا بما لم يعجل الله لكم، فإنَّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربِّه وحق رسوله وأهل بيته مات شهيداً، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النية مقام إصلاته بسيفه، فإن لكل شيء مدة وأجلاً».
إشكالان في المقام:
الأول: تقييد الطاعة والنصرة بزمان الظهور فقط: قد يقال: إنَّه ورد في بعض الروايات أنَّ الطاعة للإمام (عجَّل الله فرجه) مختصة بزمان ظهوره ولا تشمل زمان غيبته، ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق (قدّس سرّه)، قال(٣٢): حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه) قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت دعبل بن علي الخزاعي، يقول: أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) قصيدتي... «وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره، لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً...».
والجواب عن ذلك:
١ - بحسب التتبُّع القاصر لم أجد هذا المضمون في الروايات إلّا في هذه الرواية بخلاف ما دلَّ على الطاعة مطلقاً(٣٣)، فقد جاء بعدَّة مضامين، وهذا لا يكافئ تلك ولا يقيِّدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١) وسائل الشيعة (الإسلامية) - الحر العاملي: ج١١، ص٤٠.
(٣٢) كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق: ص٤٠٣.
(٣٣) بل ما صرح بالنصرة في زمن الغيبة في الرواية التي رواها المجلسي (رحمه الله) عن الإمام الصادق (عليه السلام) وتقدمت في المحور الثالث.
↑صفحة ٢٢٠↑
لو تنزَّلنا وقلنا بالتكافؤ، مع ذلك لا تقييد ولا تخصيص، لأنَّ ثبوت الطاعة والنصرة للإمام (عليه السلام) ولو بأدنى مراتبها من الضرورات، وما هو كذلك لا يُقيد بخبر واحد، فلابد من تأويله، بل ليس فيه عقد النفي كي يقع التعارض.
٢ - قد يكون المقصود من الخبر أنَّ أعلى مراتب النصرة - هي القيام بالسيف والتضحية بالنفس من أجل الإمام (عليه السلام) - هي عند ظهوره ولا نظر للخبر إلى المراتب الأخرى، ويشهد لذلك رواية أهل المشرق فمع وصف قتلاهم بالشهداء، إلَّا أنَّ الإمام (عليه السلام) قال: «لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر (عليه السلام)».
الثاني: الأمر في زمان الغيبة بأن نكون أحلاس البيوت: ورد في بعض الروايات أنَّ وظيفة الناس في زمان غيبة الإمام (عليه السلام) هو الجلوس في البيت وأن يكونوا على حدِّ تعبير الرواية أحلاس بيوتهم، وهذا ينافي أو يقيد ما دل على النصرة، إذ يحدِّد الوظيفة بأنَّها حلس البيت فقط، ومن تلك الروايات: ما رواه الشيخ النعماني (رحمه الله)(٣٤): عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّه قال لي أبي (عليه السلام): لابدَّ لنار(٣٥) من أذربيجان لا يقوم لها شيء، وإذا كان ذلك فكونوا أحلاس بيوتكم، وألبدوا ما ألبدنا، فإذا تحرَّك متحركنا فاسعوا إليه ولو حبواً، والله لكأنّي أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على كتاب جديد، على العرب شديد، وقال: ويل لطغاة العرب من شر قد اقترب».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٤) الغيبة - ابن أبي زينب النعماني: ص٢٠٠.
(٣٥) في غيبة النعماني: ص٢٧١، باب١٤، ح٢٤، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «إذا صعد العباسي... لابد لنار من أذربيجان لا يقوم لها شيء»، وبناءً على قراءة نار فإن وظيفة الحلسية تكون عندما تظهر تلك النار دونما غيرها.
↑صفحة ٢٢١↑
وفيه أيضاً(٣٦): عن أبي المرهف، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «هلكت المحاضير»، قال: قلت: وما المحاضير؟ قال: «المستعجلون، ونجا المقربون، وثبت الحصن على أوتادها، كونوا أحلاس بيوتكم، فإنَّ الغبرة على من أثارها، وأنَّهم لا يريدونكم بجائحة إلَّا أتاهم الله بشاغل إلَّا من تعرض لهم».
والجواب عن ذلك:
١ - الحلسية معلقة على صيرورة أذربيجان لأهل البيت (عليهم السلام) [بناءً على قراءة لنا وليس نار]، ففي ذلك الظرف تثبت وظيفة الأحلاس للناس إلى أن يتحرَّك متحركهم فتتبدل الوظيفة من الحلسية إلى الحبو إليه.
وفي الرواية الثانية تعليق على التعرض [إلَّا من تعرض لهم]، والكلام هو الكلام.
٢ - قد تكون هذه وظيفة خاصة لبعض الناس لا للكل، فمن لا يقدر على مراتب النصرة الأعلى يكون حلس بيته، وهي لا تنفي مراتب النصرة الانتظارية التي تقدَّمت، وقد يكون نظر الرواية إلى بعض الأزمنة التي تكون النصرة فيها مؤدية للهلكة، أو في بعض الأمكنة كذلك، فلا نظر في الرواية إلى المراتب الأخرى كي تقيدها، فهي تفقد العقد الإيجابي الموجب للتقيد أصولياً، فإنَّ المثبتات لا تنافي بينها.
فنصرته في زمان غيبته (عجَّل الله فرجه) ثابتة وإن حصل كلام في مقدارها.
التطبيق الثاني حول التسمية للحجة (عليه السلام): مسألة التسمية للإمام (عليه السلام) من المسائل المهدوية التي وقعت محلاً للبحث عند جملة من الأعيان في كتبهم الفقهية، والأقوال في هذه المسألة عديدة نقتصر على جملة منها:
أ - الجواز، قال به الشيخ المفيد والسيِّد المرتضى والمحقِّق والعلَّامة والسيِّد الخوئي (قدّس سرّهم) وجماعة(٣٧).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٦) الغيبة - ابن أبي زينب النعماني: ص٢٠٣.
(٣٧) وسائل الشيعة (ج١٦/ هامش ص٢٤٦) حيث نقل (رحمه الله) أسماء من قال بالجواز، منية السائل للسيِّد الخوئي (ص٢٢٢).
↑صفحة ٢٢٢↑
ب - عدم الجواز، قال به الشيخ الصدوق والعلَّامة المجلسي (قدّس سرّهم) وجماعة(٣٨).
ج - الجواز ما لم يكن في البين مانع، قال به الشيخ الحرُّ العاملي (قدّس سرّه) وجماعة(٣٩).
* الروايات في المسألة: وهي على طوائف ثلاثة:
الطائفة الأُولى: ما دلَّ على المنع مطلقاً، وهي روايات عديدة، منها ما رواه الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام): «... الخامس من ولد السابع، يغيب عنكم شخصه ولا يحلُّ لكم تسميته»(٤٠).
الطائفة الثانية: ما دلَّ على المنع مقيَّداً، والقيود المذكورة عديدة، فبعضها قُيِّد بالمنع إلى زمان الظهور كما في صحيح الشيخ الكليني (رضي الله عنه) عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام): «... وأشهد على رجل من ولد الحسن لا يُكنَّى ولا يُسمَّى حتَّى يظهر أمره فيملأها عدلاً كما مُلِئَت جوراً...»(٤١).
وبعضها قُيِّد بالمنع بسبب الخوف والطلب، ومنها ما رواه الشيخ الكليني (رضي الله عنه)، أيضاً وبسند تامٍّ عن عبد الله بن جعفر الحميري عندما اجتمع هو وأحمد بن إسحاق عند السفير الثاني وسألاه عدَّة أسئلة منها الاسم حيث جاء فيه: (... قلت: فالاسم؟ قال: محرَّم عليكم أنْ تسألوا عن ذلك...، وإذا وقع الاسم وقع الطلب...)(٤٢).
فيما قيَّدت طائفة ثالثة المنع إذا كان أمام الناس، ومنها ما رواه الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) بإسناده عن الشيخ محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه): «... من سمَّاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٨) كمال الدِّين (ص٣٠٧)، مرآة العقول (ج٤/ ص١٦ و١٧).
(٣٩) وسائل الشيعة (ج١٦/ ص٢٣٧).
(٤٠) كمال الدِّين (ص٣٣٣/ باب ٣٣/ ح١)؛ والخبر يمكن القول بتماميَّة سنده.
(٤١) الكافي (ج١/ ص٥٢٥ و٥٢٦/ باب ما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (عليهم السلام)/ ح١).
(٤٢) الكافي (ج١/ ص٣٢٩ و٣٣٠/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح١).
↑صفحة ٢٢٣↑
في مجمع من الناس باسمي فعليه لعنة الله»(٤٣).
إنْ قلت: إنَّ مصطلح الناس في لسان أهل البيت (عليهم السلام) هم غير الإماميَّة، فلا يدلُّ المنع إلَّا من خصوص طائفة من الناس.
قلت: ليس دائماً ويختلف باختلاف الموارد ويحتاج إلى قرينة عامَّة أو خاصَّة، وموضع الغيبة وعدم الخوف من طائفة بعينها يكشف عن أنَّ المراد من الناس هو الأعمُّ من ذلك، وبالتالي فدلالة الحديث على المنع عن التسمية شامل للجميع.
الطائفة الثالثة: ما دلَّ على الجواز، وقد قيل بتواترها(٤٤)، ومن أخبار هذه الطائفة ما رواه الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) بسنده عن الشيخ العمري محمّد بن عثمان بن سعيد (رضي الله عنه) يقول: سمعت أبي يقول: سُئِلَ أبو محمّد الحسن بن عليٍّ (عليها السلام): يا بن رسول الله، فمن الحجة والإمام بعدك؟ فقال: «ابني محمّد، هو الإمام والحجَّة بعدي...»(٤٥).
وجوه الجمع: ذُكِرَ للجمع بين هذه الطوائف عدَّة وجوه، نذكر منها:
١ - أنْ نقول بالجواز ونحمل روايات المنع على حالة الخوف، ونُقيِّد بها ما دلَّ على المنع، ففي كلِّ زمان لا خوف فيه على الإمام (عليه السلام) يصحُّ فيه ذكر اسمه.
٢ - أنْ نحمل روايات المنع مقيَّدة كانت أو مطلقة على الكراهة بقرينة روايات الجواز.
٣ - أنْ نحمل روايات المنع على جماعة خاصَّة من الناس «في مجمع من الناس» يُخاف منهم على الإمام (عليه السلام)، وهو ما يناسب أنْ يكون المنع مختصًّا بالغيبة الصغرى.
٤ - أنَّنا نحمل روايات المنع على اسم أحمد والجواز على محمّد بقرينة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٣) كمال الدِّين (ص٤٨٣/ باب ٤٥/ ح٣)؛ والخبر يمكن القول بتماميَّة سنده.
(٤٤) القائل هو الشيخ الحرُّ العاملي (رحمه الله) في كتابه القيِّم كشف التعمية (ص٨٦).
(٤٥) كمال الدِّين (ص٤٠٩/ باب ٣٨/ ح٩)؛ والسند تامٌّ إنْ تجاوزنا الإشكال في ابن إسحاق.
↑صفحة ٢٢٤↑
شاهد روائي يصلح للجمع بين الطوائف المتقدِّمة من الروايات، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): «... يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان...، له اسمان: اسم يخفى واسم يُعلَن، فأمَّا الذي يخفى فأحمد، وأمَّا الذي يُعلَن فمحمّد...»(٤٦).
وهذا الوجه ذكره الشيخ الحرٌّ (قدّس سرّه)(٤٧).
وأنت تلاحظ أنَّ القواعد التي اعتمدت في هذه المسألة الجزئية من المسائل المهدوية هي بعينها قواعد علم الأصول والحديث وتطبيق الكبريات على الصغيرات.
التطبيق الثالث حول علامات الظهور وكيفية التعامل معها: تطبيق القواعد العامة والخاصة على مسألة علامات الظهور: ذُكِرَ لمعرفة ظهور الإمام (عليه السلام) عدَّة علامات، وجاءت الأخبار بذكرها.
قال الشيخ المفيد (قدّس سرّه): (قد جاءت الأخبار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي (عليه السلام) وحوادث تكون أمام قيامه وآيات ودلالات، فمنها: خروج السفياني، وقتل الحسني...)، ثمّ ذكر العشرات من العلامات إلى أنْ قال (قدّس سرّه): (كما جاءت بذلك الأخبار، ومن جملة هذه الأحداث محتومة ومنها مشترطة، والله أعلم بما يكون، وإنَّما ذكرناها على حسب ما ثبت في الأُصول وتضمَّنها الأثر المنقول)(٤٨).
القاعدة الأولى في المقام: نقل الخبر بالعلامة لا يلازم الوقوع: يشير (قدّس سرّه) إلى أصلٍ في المسألة، حاصله أنَّ نقل الخبر بالعلامة لا يعني لزوم وقوعها، ولا صحة تطبيقها من قبل من يطبقها، وإنَّما ورد الخبر بها فلزم على من يبحث المسألة ذكر ما ورد فيها. كما وذكر الشيخ الطبرسي (قدّس سرّه) عين عبارة الشيخ المفيد (قدّس سرّه) المتقدِّمة(٤٩).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٦) كمال الدِّين (ص٦٥٣/ باب ٥٧/ ح١٧).
(٤٧) كشف التعمية (ص١٠٤).
(٤٨) الإرشاد (ج٢/ ص٣٦٨ - ٣٧٠).
(٤٩) تاج المواليد (ص٧٠-٧٤).
↑صفحة ٢٢٥↑
قال الشيخ النعماني (قدّس سرّه): (هذه العلامات التي ذكرها الأئمَّة (عليهم السلام)مع كثرتها واتِّصال الروايات وتواترها واتِّفاقها موجبة ألَّا يظهر القائم (عليه السلام) إلَّا بعد مجيئها وكونها، إذ كانوا قد أخبروا أنْ لا بدَّ منها، وهم الصادقون، حتَّى إنَّه قيل لهم: نرجو أنْ يكون ما نؤمل من أمر القائم (عليه السلام) ولا يكون قبله السفياني، فقالوا: «بلى والله، إنَّه لمن المحتوم الذي لا بدَّ منه»، ثمّ حقَّقوا كون العلامات الخمس هي من بين أكثر الدلائل والبراهين على ظهور الحقِّ بعدها، كما أبطلوا أمر التوقيت، وقالوا: «من روى لكم عنَّا توقيتاً فلا تهابوا أنْ تُكذِّبوه كائناً من كان، فإنَّا لا نُوقِّت»، وهذا من أعدل الشواهد على بطلان أمر كلِّ من ادَّعى أو ادُّعي له مرتبة القائم ومنزلته، وظهر قبل مجيء هذه العلامات...)(٥٠)،(٥١).
القاعدة الثانية في المقام: ضرورة وقوع العلامات وعدم التنافي مع النهي عن التوقيت: يشير (قدّس سرّه) إلى قاعدة ضرورية في العلامات من كونها لابدَّ أن تقع بعد أن أخبر الأئمة (عليهم السلام)، فهي تقع لا محالة في الجملة، وفي ذات الوقت الذي نؤمن بوقوع العلامات عند الظهور لا يجوز لنا من جهة ثانية التوقيت للظهور ولا تطبيقها.
كلام في المنهجية والتنبيه على ضبط القواعد عند الشروع في التصنيف:
تتعدَّد البحوث في العلامات وتختلف باختلاف المنهج والقواعد المتبعة في هذه المسألة، ومنها:
أولاً: بحث تصوري في تعريف العلامة: يتبين أنَّ معنى العلامة وماهيَّتها هي حادثة تكون قبل قيام الإمام (عليه السلام) أو معه وتكون دالَّة على ظهوره.
ثانياً: تقسيم العلامات إلى المحتوم وغير المحتوم: ذكرت الروايات عدَّة تقسيمات للعلامات من أهمّها انقسامها إلى المحتومة وغير المحتومة، وممَّا دلَّ على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٠) الغيبة للنعماني (ص٢٩١ و٢٩٢).
(٥١) من أجمل ما تمتاز به المهدويَّة أنَّ الاستدلال عليها متعدِّد الجوانب أو الجهات، وتُعَدُّ روايات العلامات قبل قيام الإمام (عجَّل الله فرجه) من أدلَّة صحَّتها.
↑صفحة ٢٢٦↑
ذلك عدة روايات منها: ما روي عن المعلَّى بن خنيس، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من الأمر محتوم، ومنه ما ليس بمحتوم، ومن المحتوم خروج السفياني في رجب»(٥٢).
وفي نصٍّ آخر عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢]، فقال: «إنَّهما أجلان: أجل محتوم، وأجل موقوف»، فقال له حمران: ما المحتوم؟
قال (عليه السلام): «الذي لله فيه المشيئة»، قال حمران: إنِّي لأرجو أنْ يكون أجل السفياني من الموقوف، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «لا والله إنَّه لمن المحتوم»(٥٣). وفي نصٍّ ثالث: «وإنَّ السفياني من المحتوم الذي لابدَّ منه»(٥٤)، وتلاحظ تعريف الإمام (عليه السلام) للمحتوم بأنَّه لا بدَّ منه.
وروى الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) بسند تامٍّ(٥٥) عن عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: «قبل قيام القائم خمس علامات محتومات: اليماني، والسفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكيَّة، والخسف بالبيداء»(٥٦).
قاعدة: وقوع البداء في المحتوم: مسألة: هل يبدو لله تعالى في المحتوم؟
روى الشيخ النعماني (قدّس سرّه) عن شيخه محمّد بن همَّام، عن محمّد بن أحمد بن عبد الله الخالنجي، قال: حدَّثنا أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنَّا عند أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا (عليه السلام)، فجرى ذكر السفياني، وما جاء في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٢) الغيبة للنعماني (ص٣١٠ و٣١١/ باب ١٨/ ح٢).
(٥٣) الغيبة للنعماني (ص٣١٢ و٣١٣/ باب ١٨/ ح٥)؛ هذا ولكن الصحيح ما ورد في بحار الأنوار (ج٥٢/ ص٢٤٩/ ح١٣٣) عن الغيبة للنعماني، وفيه: قال له حمران: ما المحتوم؟
قال: «الذي لا يكون غيره»، قال: وما الموقوف؟ قال: «هو الذي لله فيه المشيَّة...»، فراجع.
(٥٤) الغيبة للنعماني (ص٣١٣/ باب ١٨/ ح٦).
(٥٥) سوى الحسين بن الحسن بن أبان، ويمكن توثيقه بعدَّة وجوه ذُكِرَت في محلِّها. أمَّا عمر بن حنظلة فقد تقدَّمت وجوه توثيقه، فراجع.
(٥٦) كمال الدِّين (ص٦٥٠/ باب ٥٧/ ح٧).
↑صفحة ٢٢٧↑
الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): هل يبدو لله في المحتوم؟
قال: «نعم»، فقلنا له: فنخاف أنْ يبدو لله في القائم، فقال: «إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يخلف الميعاد»(٥٧).
وقد وقع هذا النصُّ محلّاً للنقاش، وهل يقع في الحتم البداء؟
فما هي فائدته وتميُّزه عن غيره إنْ وقع البداء فيه؟
والجواب عن هذه الإثارات:
١ - أنَّ هذا النصَّ هو الوحيد في بابه، وهو ضعيف بالخالنجي، ولا معنى لتقيُّد ما صحَّ من روايات العلامات المحتومات به.
٢ - على أنَّه لو سلَّمنا اعتباره سنداً، فهو مفسَّر معارض بما يُشكِّل سُنَّة قطعيَّة ممَّا دلَّ على أنَّه من العلامات الحتميَّة، وأنَّ الحتم هو الذي لا بدَّ منه.
٣ - اللسان في النصوص المتقدِّمة آبي عن التقيُّد، ومعارضها ساقط.
٤ - يمكن تأويل وقوع البداء في الحتم بما لا يُخرجه عن حتميَّته، كما لو كان يقع في مقدّمات المحتوم أو زمان وقوعه أو بعض خصوصيَّاته إنْ كانت له.
وهذه قاعدة مهمة في هذه المسألة الفرعية: خضوع العلامات الحتمية للبداء.
قاعدة: لا تُطبِّق ما لم تجزم بالعلامة:
التطبيق ينقسم إلى قسمين:
١ - التطبيق المحض: أي ذكر ذات العلامة كما في الرواية الآتية في ابن طباطبا.
٢ - التطبيق غير المحض: وهو ذكر العلامة وتطبيقها على الذات الخارجية مع استلزامه الوقت كما في الحتميات كتطبيق اليماني مع شخص خارجي مستلزمٍ لتحديد وقت معين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٧) الغيبة للنعماني (ص٣١٤ و٣١٥/ باب ١٨/ ح١٠).
↑صفحة ٢٢٨↑
عرفوا التوقيت: هو ذكر وقت محدَّد بيوم أو شهر من سنة معيَّنة أو غيرهما من الألفاظ الدالَّة عليهما، كالعقد والقرن، أو ما يفهم العرف أنَّه تحديد.
يتنافى وما ذكرته الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، فعن أبي عبد الله (عليه السلام): «يا مهزم، كذب الوقَّاتون، وهلك المستعجلون، ونجا المسلِّمون»(٥٨).
وعن أبي خالد الكابلي يسأل الإمام الباقر (عليه السلام) عن التوقيت، فيُجيبه (عليه السلام): «... سألتني والله - يا أبا خالد - عن سؤال مجهد، ولقد سألتني عن أمر ما كنت محدِّثاً به أحد، ولو كنت محدِّثاً به أحد لحدَّثتك...»(٥٩).
وفي نصٍّ آخر: «... من أخبرك عنَّا توقيتاً فلا تهابنَّ أنْ تُكذِّبه، فإنَّا لا نُوقِّت لأحدٍ وقتاً»(٦٠).
وعندما سُئِلَ الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) عن ذلك، أجاب (عجَّل الله فرجه) في توقيع إسحاق بن يعقوب: «... وأمَّا ظهور الفرج فإنَّه إلى الله تعالى ذكره، وكذب الوقَّاتون»(٦١).
وما يمكن أنْ يُستَدلَّ به على بطلان التوقيت من وجوه من غير ما روي أعلاه أُمور، منها:
١ - الأصل والقاعدة في معرفة المستقبل على نحو الجزم واليقين ممنوعة، لأنَّه من الغيب، والاطِّلاع عليه ليس متيسِّراً لكلِّ أحد، قال تعالى: ﴿يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً﴾ (الأحزاب: ٦٣)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ (لقمان: ٣٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٨) الكافي (ج١/ ص٣٦٨/ باب كراهيَّة التوقيت/ ح٢).
(٥٩) الغيبة للنعماني (ص٢٩٩ و٣٠٠/ باب ١٦/ ح٢).
(٦٠) الغيبة للنعماني (ص٣٠٠/ باب ١٦/ ح٣).
(٦١) كمال الدِّين (ص٤٨٣ - ٤٨٥/ باب ٤٥/ ح٤).
↑صفحة ٢٢٩↑
وفي خصوص الإمام الحجة بن الحسن (عجَّل الله فرجه) وظهوره، فقد روي في أنَّه (عجَّل الله فرجه) من الغيب، وأنَّه (عجَّل الله فرجه) كالساعة، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): «... وأمَّا متى، فإخبار عن الوقت، فقد حدَّثني أبي، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قيل له: يا رسول الله، متى يخرج القائم من ذرّيَّتك؟
فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): مثله مثل الساعة التي ﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾ [الأعراف: ١٨٧]»(٦٢).
٢ - قاعدة المعلوم ينتشر ويشيع ويفقد الغرض من كتمه: أنَّ الوقت كان معلوماً عند أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن الناس أشاعته وكشفته فرفعه الله تعالى، وممَّا دلَّ على أنَّه كان موجوداً عندهم عدَّة نصوص، منها:
أ - عن إسحاق بن عمَّار الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قد كان لهذا الأمر وقت، وكان في سنة أربعين ومائة، فحدَّثتم به وأذعتموه، فأخَّره الله (عزَّ وجلَّ)»(٦٣).
ب - عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ما لهذا الأمر أمد ينتهي إليه ويريح أبداننا؟ قال: «بلى، ولكنَّكم أذعتم، فأخَّره الله»(٦٤).
ج - عن أبي حمزة، قال: سمعت الباقر (عليه السلام): «يا ثابت، إنَّ الله تعالى قد كان وقَّت هذا الأمر في سنة السبعين، فلمَّا قُتِلَ الحسين (عليه السلام) اشتدَّ غضب الله فأخَّره إلى أربعين ومائة، فحدَّثناكم بذلك، فأذعتم وكشفتم قناع الستر، فلم يجعل الله لهذا الأمر بعد ذلك وقتاً عندنا، ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٣٩]»(٦٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٢) كمال الدِّين (ص٣٧٢ و٣٧٣/ باب ٣٥/ ح٦).
(٦٣) الغيبة للنعماني (ص٣٠٣/ باب ١٦/ ح٨).
(٦٤) الغيبة للنعماني (ص٢٩٩/ باب ١٦/ ح١).
(٦٥) الغيبة للنعماني (ص٣٠٣ و٣٠٤/ باب ١٦/ ح١٠).
↑صفحة ٢٣٠↑
٣ - قاعدة مخالفة التوقيت للضرورة: فقد دلت الروايات على أنَّه لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم واحد لطوَّل الله تعالى ذلك اليوم حتَّى يخرج المهدي (عليه السلام)، وهو يدلُّ على تعذُّر التوقيت له (عليه السلام).
وممَّا روي في ذلك ما نقله الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) في باب الوصيَّة من لدن آدم (عليه السلام) حيث قال:... وقد وردت الأخبار الصحيحة بالأسانيد القويَّة أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوصى بأمر الله تعالى...، إلى أنْ يقول: وأوصى الحسن بن عليٍّ إلى ابنه حجَّة الله القائم بالحقِّ الذي لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يخرج فيملأها عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً(٦٦).
فكونه (عليه السلام) يخرج حتماً ولو في آخر يوم كاشف أيضاً عن عدم القدرة على تحديد هذا اليوم بنحو الجزم والعلم.
وقد ادَّعى الانطباق جماعة، ظنًّا منهم أنَّ التطابق في الأسماء أو الصفات أو الألقاب كاليماني أو الخراساني أو غيرهما كافٍ في إثبات ذلك، فإنَّ المشابهة في الاسم أو اللقب أو بعض الصفات الجسديَّة غير كافية، إذ يوجد في زمانٍ واحدٍ منها المئات بل أكثر، فيكون الجزم بها لبعضهم دون غيرهم ترجيح بلا مرجِّح.
وممَّا ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) في مقام تعجُّبهم ممَّن يقوم بتطبيق الأشخاص والأولياء والأحداث خطأً، ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: «قبل هذا الأمر السفياني واليماني والمرواني وشعيب بن صالح، فكيف يقول هذا وهذا؟!»(٦٧)، وذكر المحقِّق في هامش الحديث تفسيراً له: (أي كيف يقول محمّد ابن إبراهيم بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٦) من لا يحضره الفقيه (ج٤/ ص١٧٧/ ح٥٤٠٢).
(٦٧) الغيبة للنعماني (ص٢٦٢/ باب ١٤/ ح١٢).
↑صفحة ٢٣١↑
إسماعيل المعروف بابن طباطبا: إنِّي القائم؟)(٦٨).
قواعد في مسألة فرعية من مسألة العلامات: قواعد مسألة الصيحة:
الصيحة من العلامات الحتميَّة، وغاية في الأهمّيَّة في الكشف عن الظهور، ونتحدَّث عنها وعن قواعدها في ضمن نقاط:
أولاً: خصائص الصيحة: في (الغيبة) للشيخ النعماني (قدّس سرّه) عن أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة، عن أحمد بن يوسف بن يعقوب أبو الحسن الجعفي من كتابه، قال: حدَّثنا إسماعيل ابن مهران، قال: حدَّثنا الحسن بن عليِّ بن أبي حمزة، عن أبيه ووهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ (عليه السلام) أنَّه قال: «إذا رأيتم ناراً من المشرق شبه الهردي(٦٩) العظيم تطلع ثلاثة أيَّام أو سبعة(٧٠) فتوقَّعوا فرج آل محمّد (عليهم السلام) إنْ شاء الله (عزَّ وجلَّ)، إنَّ الله عزيز حكيم».
ثمّ قال: «الصيحة لا تكون إلَّا في شهر رمضان، لأنَّ(٧١) شهر رمضان شهر الله، والصيحة فيه هي صيحة جبرائيل إلى الخلق». ثمّ قال: «ينادي منادٍ من السماء باسم القائم (عليه السلام)، فيسمع من بالمشرق ومن بالمغرب، لا يبقى راقد إلَّا استيقظ، ولا قائم إلَّا قعد، ولا قاعد إلَّا قام على رجليه فزعاً من ذلك الصوت، فرحم الله من اعتبر بذلك الصوت فأجاب، فإنَّ الصوت الأوَّل هو صوت جبرئيل الروح الأمين (عليه السلام)».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٨) نعم، توجد رواية تقول: «وكف يقول...» ولكنها رغم ورودها في الكتاب المعروف بمسند الإمام الرضا (عليه السلام) ج١، ص٢١٨، ح٣٧٧ وهو ينقلها عن كتاب غيبة النعماني (رحمه الله) ولكن ما تقدم من غيبة النعماني المعضود بنقل الشيخ المجلسي (رحمه الله) ج٥٢، ص٢٣٣، باب٢٥ ومتوافق مع السياق.
(٦٩) أي خضراء مائلة إلى الحمرة.
(٧٠) الترديد في الرواية لعلَّه ناشئ من التوقُّف على أُمور وعناصر متغيِّرة إنْ حصلت كان ثلاثة وإنْ لم تحصل كان سبعة أو بالعكس، ومثله لا يضرُّ بالعصمة بلا شكٍّ.
(٧١) التعليل بشهر رمضان لعلَّه لبيان الحكمة وليس العلَّة الحقيقيَّة، لأنَّ الصيحة كما تقع فيه تقع في غيره كما يأتي، ولعلَّه لبيان فضله.
↑صفحة ٢٣٢↑
ثمّ قال (عليه السلام): «يكون الصوت في شهر رمضان في ليلة جمعة ليلة ثلاث وعشرين، فلا تشكُّوا في ذلك، واسمعوا وأطيعوا، وفي آخر النهار صوت الملعون إبليس اللعين ينادي: ألَا إنَّ فلاناً قُتِلَ مظلوماً، ليُشكِّك الناس ويفتنهم، فكم في ذلك اليوم من شاكٍّ متحيِّر قد هوى في النار، فإذا سمعتم الصوت في شهر رمضان فلا تشكُّوا في أنَّه صوت جبرئيل، وعلامة ذلك أنَّه ينادي باسم القائم واسم أبيه (عليه السلام) حتَّى تسمعه العذراء في خدرها فتُحرِّض أباها وأخاها على الخروج».
وقال: «لابدَّ من هذين الصوتين قبل خروج القائم (عليه السلام)، صوت من السماء وهو صوت جبرئيل باسم صاحب هذا الأمر واسم أبيه، والصوت الثاني من الأرض هو صوت إبليس اللعين ينادي باسم فلان أنَّه قُتِلَ مظلوماً، يريد بذلك الفتنة، فاتَّبعوا الصوت الأوَّل، وإيَّاكم والأخير أنْ تفتنوا به»(٧٢).
والحديث طويل وتامٌّ سنداً على بعض المباني(٧٣)، ويحمل جملة دلالات مهمَّة تساعد في تشكيل صورة لملامح ما قبل ظهور الإمام (عليه السلام).
وفي (الغيبة) للشيخ النعماني (قدّس سرّه)، عن أبي عبد الله (عليه السلام) جاء فيه: «... إذا سمعوا الصوت من السماء: ألَا إنَّ الحقَّ في عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) وشيعته»، قال: «فإذا كان من الغد صعد إبليس في الهواء حتَّى يتوارى عن أهل الأرض ثمّ ينادي: ألَا إنَّ الحقَّ في عثمان بن عفَّان وشيعته، فإنَّه قُتِلَ مظلوماً فاطلبوا بدمه»، قال: «فيُثبِّت الله الذين آمنوا بالقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٢) الغيبة للنعماني (ص٢٦٢ و٢٦٣/ باب ١٤/ ح١٣).
(٧٣) الحسن بن عليٍّ توجد وجوه لتوثيقه: من أنَّ له أصلاً، ورواية الثقات عنه، وأنَّ الطائفة عملت برواياته، ورواية أصحاب الإجماع عنه كابن أبي عمير والبزنطي، وصدر في حقِّه: «وأبوه أوثق منه» (رجال ابن الغضائري: ص٥١/ الرقم ٣٣/٦).
أمَّا والده عليُّ بن أبي حمزة، فيمكن توثيقه لما تقدَّم في ابنه، وأنَّه من رواة كامل الزيارات والقمّي، وقول الشيخ الطوسي (رحمه الله) فيه من عمل الطائفة برواياته، وبذلك تكون الرواية تامَّة سنداً.
↑صفحة ٢٣٣↑
الثابت على الحقِّ، وهو النداء الأوَّل...»(٧٤)، والحديث تامٌّ سنداً.
وذكر النعماني الحديث الذي بعده بسند تامٍّ أيضاً وبنفس لفظه، قال: (مثله سواء بلفظه).
قاعدة عامة في المقام: امتناع التلاعب بالصيحة السماوية: الصوت الوارد بقرينة ما تقدَّم من كونه مسموعاً من كلِّ الناس وكلِّ أهل لغة بلغتهم فهو صوت عرفي، ويُحمَل على معانيه العرفيَّة المفهومة لدى الناس عامَّة، لكي يناسب أنَّه آية عامَّة واضحة وكاشفة عن الأحداث الجارية ومدى مطابقتها للواقع، على أنَّ المتبادر منه هو المعنى العرفي.
فالتصريح أنَّ الصيحة الأُولى من السماء والأُخرى من الهواء أو الأرض يمنع يد التلاعب فيها.
قاعدة: في كيفية التمييز بين الصيحتين: وردت نصوص بمفاد أنَّ الناس يُعيِّرونا ويقولون: إنَّكم تزعمون أنَّه سيكون صوت من السماء(٧٥)، وأنَّهما نداءان، فأيُّهما الصادق من الكاذب(٧٦)؟
حتَّى ورد أنَّ بعض من يسمع الصوت الأوَّل يقول: (هذا سحر الشيعة وحتَّى يتناولونا)(٧٧).
فيأتي الجواب على لسان أهل البيت (عليهم السلام): في موثَّقة عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام):... قال: «يعرفه الذين كانوا يروون حديثنا ويقولون: إنَّه يكون قبل أنْ يكون، ويعلمون أنَّهم هم المحقُّون الصادقون»(٧٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٤) الغيبة للنعماني (ص٢٦٧/ باب ١٤/ ح١٩).
(٧٥) الغيبة للنعماني (ص٢٦٩/ باب ١٤/ ح٢٠)، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام).
(٧٦) الغيبة للنعماني (ص٢٧٣/ باب ١٤/ ح٣٠)، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام).
(٧٧) الغيبة للنعماني (ص٢٦٩/ باب ١٤/ ح٢٠)، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام).
(٧٨) الغيبة للنعماني (ص٢٧٢ و٢٧٣/ باب ١٤/ ح٢٨).
↑صفحة ٢٣٤↑
وأيضاً ما رواه النعماني (قدّس سرّه) بسند تامٍّ عن هشام بن سالم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ الجريري أخا إسحاق يقول لنا: إنَّكم تقولون: هما نداءان، فأيُّهما الصادق من الكاذب؟
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «قولوا له: إنَّ الذي أخبرنا بذلك - وأنت تُنكِر أنَّ هذا يكون - هو الصادق»(٧٩).
وفي نصٍّ ثالث تامٌّ سنداً أيضاً عن هشام بن سالم:... فقلت: وكيف تُعرَف هذه من هذه؟ فقال الإمام الصادق (عليه السلام): «يعرفها من كان سمع بها قبل أنْ تكون»(٨٠).
وفي نصٍّ رابع عن الجريري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ الناس يُوبِّخونا ويقولون: من أين يُعرَف المحقُّ من المبطل إذا كانتا؟ فقال: «ما تردُّون عليهم؟»
قلت: فما نردُّ عليهم شيئاً، قال: فقال (عليه السلام): «قولوا لهم: يُصدِّق بها إذا كانت، من كان مؤمناً، يؤمن بها قبل أنْ تكون»، قال: «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس: ٣٥]»(٨١)، وقوله: «إنْ كانت» لا ينافي الحتم، إنَّما يتعلَّق على المشيئة.
وفي نصٍّ خامس عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «اسكنوا ما سكنت السماوات والأرض، أي لا تخرجوا على أحد فإنَّ أمركم ليس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٩) الغيبة للنعماني (ص٢٧٣/ باب ١٤/ ح٣٠).
(٨٠) الغيبة للنعماني (ص٢٧٣ و٢٧٤/ باب ١٤/ ح٣١).
(٨١) الغيبة للنعماني (ص٢٧٤/ باب ١٤/ ح٣٢)؛ وفي سنده محمّد بن خالد، وهو مشترك بين جماعة، منهم الأصمُّ والبرقي المتقاربان طبقةً، فإنْ استظهرنا الثقة فبها، وإلَّا فيمكن التعويض بطريق الكليني (ج٨/ ص٢٠٨/ ح٢٥٢)، فإنَّه لا يمرُّ بمحمّد بن خالد، إلَّا أنَّ المشكلة تبقى من جهة عبد الرحمن بن مسلمة الجريري لم يذكروه.
↑صفحة ٢٣٥↑
به خفاء، ألا إنَّها آية من الله (عزَّ وجلَّ) ليست من الناس، ألا إنَّها أضوأ من الشمس لا تخفى على برٍّ ولا فاجر، أتعرفون الصبح؟
فإنَّها كالصبح ليس به خفاء»(٨٢).
تقريب: إنَّ هذا النصَّ في غاية البيان والوضوح أنَّ آية السماء لن تخفى على أحد وهي عامَّة للجميع، والنصُّ من شدَّة وضوحه لا يحتاج إلى توضيح.
قاعدة: استبقاء النفس للصاحب (عجَّل الله فرجه): أهل البيت (عليهم السلام) رجَّحوا استبقاء النفس لصاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) حتَّى لو كان إذهاب النفس في سبيل الحقِّ والشهادة، كما في رواية الشيخ النعماني (قدّس سرّه) بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام): «كأنِّي بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحقَّ فلا يُعطَونه، ثمّ يطلبونه فلا يُعطَونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيُعطَون ما سألوه فلا يقبلونه حتَّى يقوموا، ولا يدفعونها إلَّا إلى صاحبكم، قتلاهم شهداء، أمَا إنِّي لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر»(٨٣)، ففيه دلالة على قرب الظهور من جهة إبقاء النفس.
إن قلت: يحتمل أنها خاصة بالإمام (عليه السلام).
قلت: هو في مقام بيان الحال للناس مع أمثال هؤلاء فرغم كون قتلاهم شهداء فالإنسان مخيّر بالذهاب معهم أو الاستبقاء للإمام لاستبقاء أفضل.
نعم، احتمال أن يكون كلام الإمام (عليه السلام) عن فترة ما قبل الظهور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٢) الغيبة للنعماني (ص٢٠٧ و٢٠٨/ باب ١١/ ح١٧).
(٨٣) الغيبة للنعماني (ص٢٨١ و٢٨٢/ باب ١٤/ ح٥٠)؛ والسند لا مشكلة فيه إلَّا من جهة أبي خالد الكابلي، ويمكن توثيقه على الأصحّ. والحسين بن موسى الذي لم يُوثَق، إلَّا أنَّ ابن أبي عمير قد روى عنه، لمن يقبل ذلك.
↑صفحة ٢٣٦↑
ومعرفة المكلف لذلك كي يترجح الاستبقاء لصاحب الأمر (عليه السلام) الذي ذكرناه بعقب الحديث وجيه.
فهل ترى كل هذه الأهمية لا تصل إلى أهمية جعل هذه المسائل من مهمات البحث وتنظم في درس بل علم؟!
قبل الختام توصية: بعد هذا الاطلاع يتضح لك أهمية الدرس المهدوي بما لا شك فيه بالمعنى المتقدم، بل المأمول والمرجو أن ننتقل من مرحلة الدرس المهدوي إلى مرحلة علم المهدوية، فهو من جهة التعريف والغرض والمسائل يكاد يكون مستقلاً، نسأله تعالى بحق صحاب الأمر (عجَّل الله فرجه) أن يفتح سبل صيرورة هذا الأمر.
↑صفحة ٢٣٧↑