القيم الأخلاقية في الدولة المهدوية تأسيسات ومبادئ
القيم الأخلاقية في الدولة المهدوية
تأسيسات ومبادئ
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
↑صفحة ٠↑
مقدمة:...................١٠٩
المطلب الأول: تأسيسات:...................١١١
الأساس الأول: واقعية الأخلاق في الدين الإسلامي:...................١١١
الأساس الثاني: إطلاق الأخلاق وعدم نسبيتها:...................١١٢
الأساس الثالث: أقسام الأفعال من حيث الحسن والقبح:...................١١٣
الأساس الرابع: التوازن السلوكي:...................١١٥
الأساس الخامس: ارتباط المبادئ الأخلاقية بأصول الدين وفروعه:...................١١٦
المطلب الثاني: مبادئ التطبيق الأخلاقي في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):...................١١٦
المبدأ الأول: الرجوع إلى الفطرة:...................١١٧
المبدأ الثاني: وضوح الرؤية الكونية:...................١١٩
أ - التعريف بالعقيدة الحقة:...................١١٩
ب - نشر العلم والمعرفة والقضاء على الجهل:...................١٢٠
المبدأ الثالث: توفير الأجواء المناسبة للتطبيق الأخلاقي:...................١٢٠
١ - التطبيق النموذجي للمبادئ الأخلاقية من قيادات الدولة:...................١٢٠
ب - توفير أماكن العلم والمعرفة - بناء المساجد نموذجاً -:...................١٢٢
المبدأ الرابع: القضاء على موانع التطبيق الأخلاقي:...................١٢٤
أ - إبليس:...................١٢٥
النصُّ الأوَّل: أنَّ الذي يقتله هو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند قيامه:...................١٢٦
النصُّ الثاني: أنَّ الذي يقتله هو الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الرجعة:...................١٢٦
النصُّ الثالث: أنَّ الذي يقتله هو أمير المؤمنين (عليه السلام) في الرجعة:...................١٢٦
أمَّا ما هو معنى قتل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لإبليس؟...................١٢٧
ب - القضاء على الأعداء (الكافرين والمشركين):...................١٢٨
ج - القضاء على الفقر والحاجة المادية:...................١٣٠
المطلب الثالث: نماذج من الأخلاق العملية في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):...................١٣١
النموذج الأول: تقديم الواجب على المستحب عند التعارض:...................١٣٢
النموذج الثاني: عموم العدل:...................١٣٣
النموذج الثالث: التكافل الاجتماعي (يقضي الدين) مثلاً:...................١٣٥
النموذج الرابع: آداب وأخلاقيات الحرب:...................١٣٦
الخاتمة:...................١٣٩
↑صفحة ٠↑
مقدمة:
تتحكَّم بالبشر علاقات متكثِّرة، تكوِّن فيما بينها شبكات تواصل اجتماعية ذات فروع غير متناهية، ولأنَّ الواقع يشهد بقلَّة الفرص إزاء الرغبات المتزايدة، كان لابد من قانون يحكم هذا الواقع، فيعمل على تقليل التصادمات الحاصلة من التنافس على الفرص، على أنَّ تقنين - ومن ثَمَّ تقليل - التصادم تماماً هدف يسعى إليه المشرِّعون عموماً.
وفي سبيل ذلك، عمد المشرِّعون إلى طرح التقنينات الدستورية التي يلزم على الأتباع تنفيذها، وجعلوا من وظائف القوة الساندة لهم حامياً لتنفيذ تلك التقنينات، وفرضوا عقوبات متنوعة على من يخالف الدستور.
ولم يكن الدين ليتَّخذ طريقة أخرى في سبيل ذلك، سوى أنَّ له طرقاً وآليات تختلف في بعض مفرداتها مع قانون البشر الوضعي، وكان من أهم تلك الآليات هو تحفيز الدافع الذاتي للتعاون مع الآخر، وإحياء (الضمير) أو ما يُطلق عليه في النصوص الدينية: النفس اللوامة، وغيرها...
الأخلاق، تلك القيم المعرفية التي يُطلب ترجمتها إلى سلوك على أرض الواقع، كانت من الآليات التي لابد منها في قانون السماء، فالدين لم يفترض
↑صفحة ١٠٩↑
دستوراً خالياً من الأخلاق، إنما هو دستور مؤطر بالأخلاق في كل مفاصله، ومن ثم، كان للمتدين بالدين السماوي سلوكيات تختلف جذرياً عن سلوكيات غيره.
فالأخلاق محور جوهري في بناء المجتمعات الإنسانية، إذ تعكس القيم والمبادئ التي تحكم العلاقات بين الأفراد وتوجه سلوكياتهم نحو الخير والصلاح.
ولأنَّ الأخلاق ليست نظريات مجرَّدة فقط، بل يجب أن تتجسَّد في سلوك عملي، فقد حرصت الرسالات السماوية على تعزيزها، لا سيّما في الإسلام الذي جعلها جزءاً لا يتجزأ من منظومته التشريعية.
وفي هذا السياق، يُسلّط هذا البحث الضوء على التطبيق الأخلاقي في الدولة المهدوية، التي ستكون النموذج الأسمى لتحقيق العدل والقيم الإنسانية الرفيعة.
يهدف البحث إلى استكشاف المبادئ والأُسس التي ستُبنى عليها هذه الدولة، والتي ستضمن تحقيق السلوك الأخلاقي في مختلف مجالات الحياة.
كما يتناول نماذج من التطبيقات العملية لهذه القيم، من تقديم الواجب على المستحب، إلى إرساء العدل الشامل والتكافل الاجتماعي، وحتَّى آداب الحرب والسلوك السياسي، كل ذلك في إطار رؤية تنبثق من الفطرة الإنسانية والتعاليم الدينية التي تؤكد على ضرورة تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، بما يُفضي إلى مجتمع مثالي تسوده الرحمة والإنصاف.
ولبيان ذلك، سيتم تسليط الضوء على أهم التأسيسات التي كانت وراء عدّ الأخلاق خطاً مهماً من خطوط الدستور الإلهي، ثم بيان المبادئ التي تؤسس للتطبيق الأخلاقي، والذي يستلزم القضاء على الموانع التي تمنع من ذلك التطبيق.
↑صفحة ١١٠↑
وفي البحث مطالب ثلاثة:
المطلب الأول: تأسيسات:
في هذا المطلب، يُسلَّط الضوء على أهم الأسس والركائز التي كانت وراء ضرورة الأخلاق، وهي تشتمل على أُسس متعدِّدة، إجمالها الآتي:
الأساس الأول: واقعية الأخلاق في الدين الإسلامي:
هناك خلاف بين الفلاسفة الدينيين وغيرهم حول حقيقة الأخلاق، ولا يهمّنا التعرُّض إلى تفصيل المذاهب في ذلك، ولكن إجمالاً نشير إلى الآتي:
أولاً: هناك من عدَّ الأخلاق أسلوباً للحياة بطريقة (الغاية تبرِّر الوسيلة)، وعلى حد مذهب بعض الشيوعية الذي جعل مدار الأخلاق كونها مما يرجع بالخير على الثورة الشيوعية ويعجّل بها، ولو كان كذباً أو غيره - مما نحكم عليه بالأخلاق البذيئة -، فجعل ملاك الأخلاق نفعيتها لخصوص الثورة.
وهذا يعني: أنَّه لا واقعية للأخلاق، إنَّما هي أساليب لتحصيل المنفعة بأي طريقة كانت، فلا ثوابت تحكمها، ولا قانون يؤطرها، ولا مرجعيات ثابتة تنظّمها.
وهذا طبعاً مبني على فلسفة مسبقة، ورؤية كونية تفترض أنَّ الوجود منحصر بهذه الحياة، ومن ثم فالإنسان الناجح هو من يتمكَّن من الاستفادة منها إلى أقصى حد.
ثانياً: هناك من عدَّ الأخلاق هي ما كانت من أجل نفع الآخرين، وهم الذين قالوا بأصالة المجتمع، لا الفرد، فكل ما يعود على المجتمع بالخير والنفع فهو أمر أخلاقي، سواء أعاد على الفرد بالنفع أم بالضرر، فلا قيمة للفرد في ذلك، وربَّما هي وجهٌ من وجوه الشيوعية التي لم تضع للفرد قيمة.
↑صفحة ١١١↑
وهذا يعني: أنَّ مثل القيم الأخلاقية الأُسرية مهمَّة لأنَّها ترجع إلى المجتمع بالخير والنفع، ولا مانع حينها من نفع الفرد بها، وفي الوقت ذاته، فإنَّ تسلّط دولة على دولة أخرى، وسلب خيراتها، بحجة العمل على نفع الصالح العامّ، هو أمر حسن أيضاً، وإن أدّى إلى إهلاك الأفراد!
وقد يُبرّر هذا بأنَّ المصلحة النوعية والعامة أهم من الشخصية، وهذا الشعار صحيح في حد نفسه، إلَّا أنَّ تحويره بشكل يؤدي إلى إلغاء قيمة الفرد، ومن ثم لا مانع من القضاء على أُمَّة من أجل أُمَّة أخرى، ولا مانع من سلب مال أحدهم من أجل أن ينتفع منه الجميع، هذا هو الذي لا يقبله عقل، ولا دليل على حسنه، بل الدليل على قبحه وجداني.
فليس الإشكال في ضرورة رعاية المصلحة العامة، إنَّما المشكلة في تهميش الفرد وإلغاء حقوقه الأمر الذي قد يؤدّي حتَّى إلى سلب ممتلكاته الشخصية!
ثالثاً: في الإسلام، لا ريب في ضرورة الأخلاق، وقد عُدّ حسن الخُلُق من أهم المبادئ التي يلزم اتِّصاف المؤمن بها، وفي الوقت الذي تراعي فيه الأخلاق الإسلامية المصلحة العامة - فتمنع من الإضرار بالمشتركات، كالطريق العام، والأنهر، وما شابه - هي تراعي وتحافظ على حقوق الفرد، فلا يصح التصرف بمال الآخرين إلَّا برضاهم، ولا يحل مال امرئ إلَّا بطيب نفسه، ولسنا في مقام تحقيق ذلك، إنَّما نذكّر بهذا الواقع الذي يشهده المسلمون منذ بزغ نور رسالة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وقد أشرنا ونؤكد على أنَّ البحث هو وفق نظرية الدين الإسلامي عموماً، ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) خصوصاً.
الأساس الثاني: إطلاق الأخلاق وعدم نسبيتها:
هناك بحث حول فلسفة الأخلاق وحقيقتها، خلاصته: هل الأخلاق
↑صفحة ١١٢↑
ذات قيم مطلقة، بمعنى أنَّ الفعل لو كان حسناً، فهو حسن في كل آن وكل مكان، ومن كل فرد صدر؟
أو أنَّها ذات قيم نسبية، تتغيَّر بتغيُّر أطرافها، فقد تكون حسنة في حال، قبيحة في حال أخرى؟
فمن ذهب إلى نسبية عالم الوجود كله، شملت النسبية عنده عالم الأخلاق، وهكذا من ذهب إلى أصالة المجتمع - كما تقدَّم - فإنَّ الأخلاق عنده ما كانت تصبّ في مصلحة المجتمع، ومن ثم فهي تتغير بتغير المجتمعات أو التقاليد والأعراف الحاكمة فيها.
أمَّا الإسلام، فإنَّه يرى إطلاق الأخلاق - على تفصيل في الأفعال يأتي في التأسيس الثالث -، وقد عبّر القرآن الكريم عن الخير بالطيب، وعن الشر بالخبيث، ولم يستثن طيباً أو خبيثاً من حكمه، فكل طيب خير، وكل خبيث شر، غايته أن تحديد الطيب من الخبيث هو ما قد يوقع الآخر في الاشتباه والخطأ في الحكم، وحتَّى لا يتشتت البحث، ننتقل إلى التأسيس الثالث.
الأساس الثالث: أقسام الأفعال من حيث الحسن والقبح:
ذكر علماء الكلام - والأصول أيضاً في بعض بحوث المستقلات العقلية - أن الأفعال - من حيث الحسن والقبح - تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسة:
الأول: ما يكون الفعل بنفسه علَّة تامَّة للحسن والقبح، وهذا ما يسمَّى بالحسن والقبح الذاتيين، مثل العدل والظلم، فالعدل بما هو عدل، لا يكون إلَّا حسناً أبداً، ومتى ما وجد لابد أن يُمدح فاعله ويعد محسناً، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلَّا قبيحاً، ومتى ما وجد ففاعله مذموم ومسيء، ويستحيل أن يكون العدل قبيحاً أو الظلم حسناً.
وحتَّى الظلمة، عندما يمارسون الظلم، فإنهم يُحاولون أن يخدعوا الناس ويصوروا أفعالهم على أنَّها أفعال عادلة وأنَّ أعداءهم هم المخطئون والظلمة،
↑صفحة ١١٣↑
وهذا يكشف عن أن مسألة حسن العدل وقبح الظلم لا خلاف فيها أبداً.
وهذا القسم مطلق بالمطلق، فلا استثناء فيه، وبه تصدق مقولة الإطلاق الأخلاقية التي بنى عليها المسلمون.
الثاني: ما لا يكون الفعل علة تامة لأحدهما، بل يكون مقتضياً للاتصاف بأحدهما، بحيث لو خُلي الفعل ونفسه، فإمَّا أن يكون حسناً، كتعظيم الصديق بما هو هو، أو يكون قبيحاً كتحقيره. ولكنه لا يمتنع أن يكون التعظيم مذموماً لعروض عنوان عليه، كما إذا كان سبباً لظلم ثالث، أو يكون التحقير ممدوحاً لعروض عنوان عليه، كما إذا صار سبباً لنجاته. ولا ينحصر المثال بهما، بل الصدق والكذب أيضاً من هذا القبيل. فالصدق الذي فيه ضرر على المجتمع قبيح، كما أنَّ الكذب الذي فيه نجاة الإنسان البريء حسن. وهذا بخلاف العدل والظلم فلا يجوز أن يتَّسم العدل - بما هو عدل - بالقبح، ولا الظلم - بما هو ظلم - بالحسن.
وهذا القسم أيضاً مطلق، لكن لا باعتبار ذات الفعل، وإنما باعتبار الأثر المترتّب عليه، فما كان أثره حسناً فهو حسن وخير بالمطلق، وإلَّا فهو شر وخبيث بالمطلق.
ولكن يبقى السؤال: ما الملاك والأساس في إطلاق حسنه وقبحه؟
والجواب: إنَّ الآثار المترتبة على تلك الأفعال، لابد أن ترجع - ولو بوسائط متعدِّدة - إلى العدل أو الظلم، ومن ثم يكون ارتباطها بالمطلق هو السبب في كونها مطلقة من هذه الناحية.
الثالث: ما لا علّية له ولا اقتضاء فيه في نفسه للاتصاف بأحدهما، وإنما يتبع الجهات الطارئة والعناوين المنطبقة عليه، وهذا كالضرب فإنَّه حسن للتأديب، وقبيح للإيذاء.
ويجري في هذا القسم ما يجري في القسم الثاني.
↑صفحة ١١٤↑
والحاصل: أنَّ الأخلاق مطلقة في الإسلام، وهذا يعني أنَّها ذات أُسس ثابتة لا تتغير بتغير الأفراد والحالات والأزمان.
الأساس الرابع: التوازن السلوكي:
المقصود من التوازن السلوكي - الذي قد يُطلق عليه في بعض التعبيرات: الذكاء العاطفي -: هي القدرة على التوازن بين مقتضيات العقل ومقتضيات العاطفة، الأمر الذي يستلزم الوعي بالآخر وفهمه جيداً، كما يستلزم التحكم بالانفعالات الشخصية وتحكيم الثوابت فيها.
انظر إلى القصاص في الإسلام من حيث كونك ابناً للقاتل مثلاً، لا ريب أن قتل أبيك سيكون مؤلماً لك وإن كان قاتلاً، إلَّا أنَّك لو نظرت إلى هذه الحالة بما هي ذات مردود اجتماعي عام، حيث تمنع من التعدّي على الآخرين بغير حق، وبما هي مانعة من تفاقم المشكلة وقتل مزيد من الناس، وهكذا لو نظرت إليها بما هي ذات مردود فردي على أولاد المقتول الذين فقدوا أباهم من دون حق، حينها سيحكم عقلك بضرورة تنفيذ القصاص، رغم أن عاطفتك تمنعك من ذلك.
وفي الوقت ذاته، قد يدفعك عقلك إلى عدم مساعدة الفقير من غير الرحم مثلاً، فإنَّه لا يستحق عليك شيئاً، ولا أنت ملزم بذلك، وأنت قد تعبت بجمع مالك، فما الداعي لمساعدته!
لكنك لو تعاملت مع الفقير بشيء من العاطفة، لوجدت أنَّ إعطاءه شيئاً من مالك لا يجلب الفقر إليك، بل سيرجع عليك برضا نفسي وارتياح ذاتي لا يشعر به من يمتنع عن الإعطاء، وحينها ستباشر للعطاء.
الدين تعامل مع المبادئ الأخلاقية على هذا الأساس، فجعل العقل والعاطفة متعاونين في تحديد الموقف الأخلاقي تجاه قضية معيَّنة، والانفراد
↑صفحة ١١٥↑
بأحدهما دون الآخر قد يؤدي إلى نتائج غير مريحة وغير مرضية للفرد والمجتمع على حد سواء.
الأساس الخامس: ارتباط المبادئ الأخلاقية بأصول الدين وفروعه:
في الدين أصول وفروع، والأخلاق هي سلوك مترتب على تلك الأصول والفرع، بمعنى أنَّ ملاك التأسيس للأخلاق في الإسلام هي الأصول، بالإضافة إلى تضمين الشريعة الإسلامية (التكاليف الشرعية) الكثير من المفردات الأخلاقية، ومن ثم تجد ارتباطاً وثيقاً بين هذه الثلاثية في الإسلام: الأصول، والفروع، والأخلاق.
فمن يؤمن بالله تعالى، تنتظم عنده منظومته الأخلاقية على أساس: الإخلاص لله تعالى، ورجاء الثواب منه لا من الناس، والصبر على الآلام التي قد تترتَّب على بعض الأخلاق.
ومن يلتزم بشريعة الإسلام، سيكون مضطراً للالتزام بالعديد من المفردات الأخلاقية الملزمة، من قبيل الإنفاق على واجبي النفقة، ودفع الزكاة والخمس - مما يدخل ضمن مفهوم التكافل الاجتماعي -، وغض الطرف عن أعراض الناس - مما يدخل تحت مفهوم احترام خصوصيات الآخرين -، ويبتعد عن ذكر الآخرين بسوء بغيبة أو نميمة أو بهتان - مما يدخل تحت مفهوم احتراك سمعة الآخرين وعدم جواز الإضرار بها - وغيرها من التطبيقات.
ومن هنا، تجد سلوك المتدين الحقيقي مختلفاً كثيراً عن سلوك المنحرف، فضلاً عن الملحد.
المطلب الثاني: مبادئ التطبيق الأخلاقي في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
تنطلق المشاريع عموماً من مبادئ تكون هي المرجع إليها في كل مفاصل
↑صفحة ١١٦↑
وجودها، وتكون هي المنبع لنموّها، وإصلاح الشؤون التي يحصل فيها خلل معين في أثناء مسيرة المشروع، وتكون تلك المبادئ هي الجذوة التي توقد في نفوس الأتباع الحماس من أجل العمل على تنمية المشروع وإيناعه.
الدولة المهدوية مشروع إلهي عظيم، وفي سبيل هداية الناس إلى الخير المطلق فيها، وإيصالهم إلى الهدف الأسمى من وجودهم على الأرض، ستعتمد تلك الدولة مبادئ مهمة، إجمالها الآتي:
المبدأ الأول: الرجوع إلى الفطرة:
المقصود من الفطرة: النظام الذي جعله الله تبارك وتعالى في الإنسان، والذي هو أشبه بما يُطلق عليه (ضبط المصنع) في الأجهزة الحديثة، حيث يرجع الإنسان إلى ما أوجده الله تعالى فيه من الخلقة الأولى، وتلك الخلقة الأولى هي خلقة الخير كما تؤكده النصوص العديدة.
إنَّ النصوص التي ذكرت فطرة الله تعالى للإنسان، فسّرتها بأنَّ الله تعالى أوجد في الناس ما يهديهم إلى التوحيد ومعرفة الله تعالى، حيث توفّر الإنسان على أدوات معرفية ذاتية توصله إلى معرفة الله تعالى، وهو ما تعهّد علم الكلام بتصويره، وقد تقدَّم أنَّ التوحيد أساس من أساسات الالتزام الأخلاقي.
عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠]؟ - قال: «فطرهم على معرفة أنَّه ربّهم ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ولا من رازقهم»(١).
وفي نصوص أخرى أنَّ تلك الفطرة هي الإيمان بالإسلام وبأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فكل من بحث - بما عدَّه من أدوات ذاتية كالعقل - فإنَّه يصل إلى حقّانية الدين الإسلامي من جهة، ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) من جهة أخرى، وهو ما تكفله علم الكلام أيضاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) المحاسن للبرقي: ج١، ص٢٤١.
↑صفحة ١١٧↑
روي عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها﴾؟ قال: فقال: «على التوحيد ومحمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى أمير المؤمنين (عليه السلام)»(٢).
وهو ما سيكون أحد أهم المبادئ التي سيعمل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على تثبيتها وإحيائها في دولته المباركة، فإذا ما رجع الناس إلى فطرتهم الخيّرة، سهل عليهم تطبيق المفردات الأخلاقية، حيث تقدَّم الارتباط الوثيق بين أصول الدين وبين التطبيقات الأخلاقية.
فإذا ما رجع الناس إلى فطرتهم تلك، إلى التوحيد، والاعتقاد بالإسلام، والإيمان بولاية أهل البيت (عليهم السلام)، فمن الطبيعي أنَّ اللازم عليهم حينها هو تطبيق التعليمات الإيمانية، والتي خصصت الكثير من تراثها للأخلاق الشاملة لجميع مفردات الحياة.
وقد عبَّرت النصوص عن تثبيت الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لهذا المبدأ بتعبيرات متنوعة:
منها: إرجاع الناس إلى أمرهم الأول، كما رويَ عنِ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «تأوي إليه أُمّته كما تأوي النحلةُ إلى يعسوبها، يملأ الأرضَ عدلاً كما مُلئت جوراً، حتَّى يكونَ الناسُ على مثلِ أمرهم الأولِ، لا يوقظ نائماً، ولا يهريق دماً»(٣).
ومنها: تآلف القلوب تماماً بحيث تنتهي الضغائن، كما رويَ عن أميرِ المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أمِنّا - آلَ محمدٍ - المهدي، أو من غيرنا؟ فقال رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «بل مِنّا، يختمُ اللهُ به الدين، كما فتحه بنا، وبنا يُنقذون من الفتن، كما أُنقذوا من الشرك، وبنا يؤلِّفُ اللهُ بين قلوبهم بعد عداوةِ الفتنةِ إخواناً، كما ألّفَ بينَ قلوبِهم بعدَ عداوةِ الشرك، وبنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢) بصائر الدرجات: ص٩٨.
(٣) الفتن للمروزي: ص٢٢٢.
↑صفحة ١١٨↑
يُصبحون بعد عداوةِ الفتنة إخواناً، كما أصبحوا بعدَ عداوةِ الشركِ إخواناً في دينهم»(٤).
وحتَّى يتم تفعيل هذا المبدأ بصورة مثالية، لابد من تخليصه من المشوشات والموانع التي تقف في طريقه، وهو مبدأ آخر سيأتي التحدث عنه إن شاء الله تعالى.
المبدأ الثاني: وضوح الرؤية الكونية:
إنَّ أحد أهم موانع الالتزام بالدين عموماً، وبالأخلاق خصوصاً، هو عدم وضوح الرؤية الكونية للفرد، ويُعنى من الرؤية الكونية: نظرة الفرد لخالق هذا الكون، وللدين، وهل إن الله تعالى ما زال يتدخل في أمور الكون تكويناً وتشريعاً أو إنه فوّض تلك الأمور إلى الناس، فالدين بشري، والقانون وضعي، والأحداث الكونية نتيجة حركة الأشياء الديناميكية، فلا نبوات ولا رسل ولا كتب منزلة ولا معجزة ولا تدخل إلهي.
إنَّ الرؤية الكونية - بهذا المعنى - لها أثر مباشر على سلوك الفرد، فإنَّ سلوك من يعتقد بالخالق، وبالنبوات، وباليوم الآخر الذي سيجازي فيه الله تعالى الناس، يختلف جذرياً عن سلوك الذي يقول: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ (المؤمنون: ٣٧).
في هذا المبدأ، ذكرت النصوص أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سيدعم الرؤية الكونية الإسلامية، التي تبتني على أنَّ الخالق هو الله تعالى، وأنَّه أرسل النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنَّه نصّب بعده الأئمة (عليهم السلام)، وتشمل:
أ - التعريف بالعقيدة الحقة:
من خلال إرجاع الناس إلى التوحيد الحق، مما تقدَّم بيانه في المبدأ الأول من الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤) عقد الدرر للمقدسي: ص١٤٢.
↑صفحة ١١٩↑
ب - نشر العلم والمعرفة والقضاء على الجهل:
إنَّ الرؤية الكونية رؤية معرفية علمية، يترتب عليها العمل والسلوك الخارجي، ومن ثم، فإنَّ التأسيس لها منهجياً متوقّف على وجود معرفة صحيحة ذات أصول ثابتة، ترجع إلى البديهي عقلاً، والمعصوم نقلاً، وهو ما سيعمل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على توفيره للناس، وبطرق مختلفة، أشارت النصوص إلى بعضها، من قبيل ما رويَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «إِذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ اللهُ يَدَه عَلَى رُؤُوسِ الْعِبَادِ، فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ وكَمَلَتْ بِه أَحْلَامُهُمْ»(٥).
المبدأ الثالث: توفير الأجواء المناسبة للتطبيق الأخلاقي:
إنَّ تطبيق السلوك الأخلاقي يحتاج إلى العديد من الظروف المناسبة التي تساعد على نموّه في سلوك الفرد، والنصوص أوضحت أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لن يغفل توفير جملة منها، نذكر منها الآتي:
١ - التطبيق النموذجي للمبادئ الأخلاقية من قيادات الدولة:
واحد من العوامل التي تحبّط الأفراد من التزام الأخلاق وقد تؤدي بهم إلى الابتعاد بل النفور منها هو أن يكون الآمر بالأخلاق مخالفاً لها في سلوكه، خصوصاً من ولي الأمر الذي إليه المرجع وعليه المعول، والعكس بالعكس، فإذا ما رأى الناس أنَّ (إمامهم) قد التزم بما يأمر به أكثر من غيره، فإنَّه سيتولد عنده الحافز الذاتي والدافع الباطني لالتزامه، وهو ما أشارت له بعض النصوص، من قبيل ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي والله مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا وأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، ولَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا»(٦).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥) الكافي للكليني: ج١، ص٢٥، كتاب العقل والجهل، ح٢١.
(٦) نهج البلاغة: ج٢، ص٩٠.
↑صفحة ١٢٠↑
وعَنْ خَالِدِ بْنِ نَجِيحٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): «أَقْرِؤُوا مَنْ لَقِيتُمْ مِنْ أَصْحَابِكُمُ السَّلَامَ وقُولُوا لَهُمْ إِنَّ فُلَانَ بْنِ فُلَانٍ يُقْرِئُكُمُ السَّلَامَ وقُولُوا لَهُمْ عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى الله (عزَّ وجلَّ) ومَا يُنَالُ بِه مَا عِنْدَ الله إِنِّي والله مَا آمُرُكُمْ إِلَّا بِمَا نَأْمُرُ بِه أَنْفُسَنَا فَعَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ والِاجْتِهَادِ...»(٧).
وعلى هذا الأساس، صرَّحت بعض النصوص بأنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سيعمل على التطبيق العملي للمفاهيم الأخلاقية على نفسه أولاً، وعلى المقربين منه ثانياً، فلا يكون هناك عذر لمن يتخلَّف عن التطبيق بعد هذا.
عن معمر بن خلاد، قال: ذُكِرَ القائمُ عندَ أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فقال: «... وما لباسُ القائمِ (عليه السلام) إلَّا الغليظُ، وما طعامُه إلَّا الجشب»(٨).
وفي نص آخر ينقل عهداً بين الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وبين أصحابه، يصرِّح فيه بضرورة التزام أصحابه بالمبادئ الشرعية والأخلاقية، وأنَّ هذا هو شرطه عليهم ليكونوا من أتباعه، فيما يشترط على نفسه أموراً كذلك، حيث روي أنَّه (عجَّل الله فرجه) بعد أن يخرج هو وأصحابه إلى الصفا، فيقول: «أنا معكم على...» ويبدأ يذكر فقرات ذلك الميثاق، وهي التالي:
«أنا معكم على أن لا تولّوا(٩)، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا مُحرِماً، ولا تأتوا فاحشة، ولا تضربوا أحداً إلَّا بحقِّه، ولا تكنزوا ذهباً ولا فضَّةً ولا تبراً ولا شعيراً، ولا تأكلوا مال اليتيم، ولا تشهدوا بغير ما تعلمون، ولا تخربوا مسجداً، ولا تُقبِّحوا مسلماً...، ولا تشربوا مسكراً، ولا تلبسوا الذهب ولا الحرير ولا الديباج، ولا تبيعوها رباً، ولا تسفكوا دماً حراماً، ولا تغدروا بمستأمن(١٠)، ولا تبقوا على كافر ولا منافق، وتلبسون الخشن من الثياب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧) الكافي للكليني: ج٥، ص٧٨، بَابُ الْحَثِّ عَلَى الطَّلَبِ والتَّعَرُّضِ لِلرِّزْقِ، ح٨.
(٨) الغيبة للنعماني: ص٢٩٥ و٢٩٦، بَاب ١٥، ح٥.
(٩) أي لا تتركوا القتال مولّين.
(١٠) أي بمن طلب منكم الأمان وأعطيتموه ذلك.
↑صفحة ١٢١↑
وتتوسَّدون التراب على الخدود، وتجاهدون في الله حقَّ جهاده، ولا تشتمون، وتكرهون النجاسة، وتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر».
ثمّ يلتفت إليهم ليذكر ما يشترطه على نفسه هو، كقائد لدولة العدل الإلهي، فيقول (عليه السلام) لهم: «فإذا فعلتم ذلك فعليَّ أن لا أتَّخذ حاجباً، ولا ألبس إلَّا كما تلبسون، ولا أركب إلَّا كما تركبون، وأرضى بالقليل، وأملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت جوراً، وأعبد الله (عزَّ وجلَّ) حقَّ عبادته، وأفي لكم وتفوا لي».
قالوا: رضينا واتَّبعناك على هذا، فيصافحهم رجلاً رجلاً(١١).
ب - توفير أماكن العلم والمعرفة - بناء المساجد نموذجاً -:
لا ريب في أنَّ من أهم ما يساعد على التطبيق الأمثل للتعليمات عموماً هي تعليمها في أماكن ومعاهد علمية معيَّنة، وقد اتَّخذ الإسلام من المساجد معاهد لذلك؛ لذا نجد أنَّ النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أسرع بتأسيس وبناء المساجد أول وصوله إلى المدينة المنورة، وكان يوجّه الأوامر بحضور الجميع إليها، خصوصاً في أثناء صلاة الجماعة، وكذا ورد في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه كان يحث كثيراً على حضور الصلاة في المسجد اهتماماً منه بهذا الأمر، فقد روي عن رزيق ، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)، يقول: «رفع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة أنَّ قوماً من جيران المسجد لا يشهدون الصلاة جماعة في المسجد. فقال (عليه السلام): ليحضرن معنا صلاتنا جماعة، أو ليتحولن عنا، ولا يجاورونا ولا نجاورهم»(١٢). هذا، وقد روي عند العامة أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخبر الناس بأنَّه همّ بحرق بيوت من لا يحضر الصلاة بعد النداء عليها، وهو منه - على فرض صحته - إظهار لمزيد الاهتمام وضرورة الحضور في المسجد، خصوصاً في وقت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١) معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) للكوراني العاملي: ج٣، ص٩٥، عن عقد الدرر للمقدسي: ص٩٦ و٩٧.
(١٢) الأمالي للشيخ الطوسي: ص٦٩٦، ح١٤٨٤/٢٧.
↑صفحة ١٢٢↑
كان هو المعهد العلمي الإسلامي الوحيد الذي يتعلَّم الناس فيه الدين والأخلاق، ففي صحيح البخاري عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب يحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم»(١٣).
ومن هنا، روي أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سيعمل على بناء المساجد الكبيرة، وأنَّ الناس ستسعى لحضور الصلاة خلفه، مما يعني أنَّ بناءها لم يكن من أجل الرفاهية الخالية من الفائدة، وإنَّما لتستوعب أكبر عدد ممكن من الناس، فقد روي عَنْ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «كَأَنِّي بِالْعَجَمِ فَسَاطِيطُهُمْ فِي مَسْجِدِ اَلْكُوفَةِ يُعَلِّمُونَ اَلنَّاسَ اَلْقُرْآنَ كَمَا أُنْزِلَ...»(١٤).
وعَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا قَامَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) ضَرَبَ فَسَاطِيطَ لِمَنْ يُعَلِّمُ اَلنَّاسَ اَلْقُرْآنَ عَلَى مَا أَنْزَلَ اَللهُ (جلَّ جلاله)، فَأَصْعَبُ مَا يَكُونُ عَلَى مَنْ حَفِظَهُ اَلْيَوْمَ، لِأَنَّهُ يُخَالِفُ فِيهِ اَلتَّأْلِيفَ»(١٥).
وعَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ قَائِمَنَا إِذَا قَامَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَاِسْتَغْنَى اَلنَّاسُ، وَيُعَمَّرُ اَلرَّجُلُ فِي مُلْكِهِ حتَّى يُولَدَ لَهُ أَلْفُ ذَكَرٍ لَا يُولَدُ فِيهِمْ أُنْثَى، وَيَبْنِي فِي ظَهْرِ اَلْكُوفَةِ مَسْجِداً لَهُ أَلْفُ بَابٍ، وَتَتَّصِلُ بُيُوتُ اَلْكُوفَةِ بِنَهَرِ كَرْبَلَاءِ وَبِالْحِيرَةِ، حتَّى يَخْرُجَ اَلرَّجُلُ يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ عَلَى بَغْلَةٍ سَفْوَاءَ يُرِيدُ اَلْجُمُعَةَ فَلَا يُدْرِكُهَا»(١٦).
عَنْ حَبَّةِ اَلْعُرَنِيِّ، قَالَ: خَرَجَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إِلَى اَلْحِيرَةِ، فَقَالَ: «لَتَصِلَنَّ هَذِهِ بِهَذِهِ - وَأَوْمَى بِيَدِهِ إِلَى اَلْكُوفَةِ وَاَلْحِيرَةِ -، حتَّى يُبَاعَ اَلذِّرَاعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا بِدَنَانِيرَ، وَلَيُبْنَيَنَّ بِالْحِيرَةِ مَسْجِدٌ لَهُ خَمْسُمِائَةِ بَابٍ يُصَلِّي فِيهِ خَلِيفَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣) صحيح البخاري: ج٨، ص١٢٧.
(١٤) الغيبة للنعماني: ص٣٣٣، باب ٢١، ح٥.
(١٥) الإرشاد: ج٢، ص٣٨٦.
(١٦) الغيبة للطوسي: ص٤٦٧ و٤٦٨/ ح٤٨٤.
↑صفحة ١٢٣↑
اَلْقَائِمِ (عجَّل الله فرجه)، لِأَنَّ مَسْجِدَ اَلْكُوفَةِ لَيَضِيقُ عَنْهُمْ، وَلَيُصَلِّيَنَّ فِيهِ اِثْنَا عَشَرَ إِمَاماً عَدْلاً»، قُلْتَ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، وَيَسَعُ مَسْجِدُ اَلْكُوفَةِ هَذَا اَلَّذِي تَصِفُ اَلنَّاسَ يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: «تُبْنَى لَهُ أَرْبَعُ(١٧) مَسَاجِدَ، مَسْجِدُ اَلْكُوفَةِ أَصْغَرُهَا، وَهَذَا، وَمَسْجِدَانِ فِي طَرَفَيِ اَلْكُوفَةِ مِنْ هَذَا اَلْجَانِبِ وَهَذَا اَلْجَانِبِ - وَأَوْمَى بِيَدِهِ نَحْوَ اَلْبَصْرِيِّينَ وَاَلْغَرِيَّيْنِ -»(١٨).
وبلفظ (بحار الأنوار) قال: (وَأَوْمَأ بِيَدِهِ نَحْوَ نَهْرِ اَلْبَصْرِيِّينَ وَاَلْغَرِيَّيْنِ)(١٩).
المبدأ الرابع: القضاء على موانع التطبيق الأخلاقي:
نظام هذا العالم مبنيٌّ على التضادّ في كثير من مفرداته، والابتلاء والاختبار من الحتميات فيه، وقد صرَّح القرآن الكريم بأنَّ ذلك كان من أجل التمييز والتمحيص، لتثبت الحجة للمهتدي وعلى الضالّ العاصي، قال تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: ١-٣).
الاختبار والابتلاء في الحياة لم يأت بشكل واحد، ولا على منوال متماثل، بل كان على أنواع مختلفة، ومفردات متنوِّعة، ولم يكن ليأتي بشكل صريح وواضح، وإنَّما تجد الكثير من مفرداته أتي بطريقة خفية، وبطريقة ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ (الناس: ٥)، وبطريقة: ﴿إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: ٢٧).
وهذا ما فرض مسؤولية عظيمة على المؤمن، بدءاً من طرق اكتشاف تلك الاختبارات والابتلاءات، مروراً بالتخلُّص مما وقع عليه منها، وانتهاءً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧) هكذا في المصدر، والصحيح نحوياً: (أربعة).
(١٨) تهذيب الأحكام: ج٣، ص٢٥٣ و٢٥٤، ح٦٩٩/١٩.
(١٩) بحار الأنوار: ج٥٢، ص٣٧٤ و٣٧٥، ح١٧٣.
↑صفحة ١٢٤↑
بتحصين النفس عن الوقوع فيما خرج منه مرة أخرى أو العودة إليه.
أحد أهم المبادئ التي ستتوفر عليها الدولة المهدوية هي القضاء على كل ما من شأنه تعكير صفو النفس، أو تشجيع المعصية، أو إتاحة الأخطاء، ولا يعني هذا أنَّ المجتمع سيتحول إلى مجتمع معصوم يمتنع عليه الخطأ تماماً، فالدولة المهدوية والدين عموماً لا يسلب إرادة الإنسان ولا يُجبره على الهداية ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: ٢٥٦)، إنَّما هو يوفر الظروف المناسبة للطاعة، لتبقى الخطوة الأخيرة بيد الإنسان، بأن يُفعّل إرادته لفعل الخير وترك الشر.
وعلى كل حال، ذكرت النصوص المهدوية أنَّه (عجَّل الله فرجه) سيرفع العديد من الموانع التي تتسبَّب عادة في معصية الإنسان، وبذا يُكمل مشهد (توفير الظروف المناسبة للطاعة وللتطبيق الأخلاقي)، ومن جملة تلك الموانع هي الآتي:
أ - إبليس:
لا يشكّ أحد في الدور الفعّال لإبليس وأعوانه من الجنّ والإنس في إغواء بني آدم، حتَّى يواقعوا المعصية، ثم العمل على أن ينسى العاصي الاستغفار، وأن يستمر بالمعصية، إلى أن تستولي المعاصي على قلبه، فيبتعد عن الفلاح كثيراً، ومن ثم، فوجود إبليس وتمكنّه من الوسوسة لبني آدم مانع كبير من التطبيق الشرعي والأخلاقي، وعلى جميع المستويات.
ومن هنا، ستشهد دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على رفع هذا المانع من أساسه، وبذا يتخلص المؤمنون من سبب رئيسي في وقوعهم في المعصية، وابتعادهم التطبيق الأخلاقي، حيث دلَّت بعض النصوص على أنَّ الوقت المعلوم الذي أُجِّل له الشيطان ليس هو يوم القيامة، وإنَّما هو يوم يكون قبله، وقد تعدَّدت النصوص في بيان ذلك اليوم الذي تنتهي فيه مهلة الشيطان ويُقتَل فيه:
↑صفحة ١٢٥↑
النصُّ الأوَّل: أنَّ الذي يقتله هو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند قيامه:
حيث روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً: «يَا وَهْبُ، أَتَحْسَبُ أَنَّهُ يَوْمَ يَبْعَثُ اَللهُ فِيهِ اَلنَّاسَ؟ إِنَّ اَللهَ أَنْظَرَهُ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ فِيهِ قَائِمُنَا، فَإِذَا بَعَثَ اَللهُ قَائِمَنَا كَانَ فِي مَسْجِدِ اَلْكُوفَةِ، وَجَاءَ إِبْلِيسُ حتَّى يَجْثُو بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَيَقُولُ: يَا وَيْلَهُ مِنْ هَذَا اَلْيَوْمِ، فَيَأْخُذُ بِنَاصِيَتِهِ فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَذَلِكَ اَلْيَوْمُ هُوَ اَلْوَقْتُ اَلمَعْلُومُ»(٢٠).
النصُّ الثاني: أنَّ الذي يقتله هو الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الرجعة:
وذلك بعد معركة تدور له مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيهرب، فيتبعه النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيقتله، فقد روي عَنْ عَبْدِ اَلْكَرِيمِ بْنِ عَمْرٍو اَلْخَثْعَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «... رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَمَامَهُ بِيَدِهِ حَرْبَةٌ مِنْ نُورٍ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ إِبْلِيسُ رَجَعَ اَلْقَهْقَرَى نَاكِصاً عَلَى عَقِبَيْهِ، فَيَقُولُونَ لَهُ أَصْحَابُهُ: أَيْنَ تُرِيدُ وَقَدْ ظَفِرْتَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخَافُ اَللهَ رَبَّ اَلْعَالَمِينَ، فَيَلْحَقُهُ اَلنَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فَيَطْعُنُهُ طَعْنَةً بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَيَكُونُ هَلَاكُهُ وَهَلَاكُ جَمِيعِ أَشْيَاعِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُعْبَدُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) وَلَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْئاً...»(٢١).
وروى القمِّي (رحمه الله) بسنده عن أبي عبد اللهِ (عليه السلام) في قول اللهِ تبارك وتعالى: ﴿فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [الحجر: ٣٦-٣٨]، قَالَ: «يَوْمُ اَلْوَقْتِ اَلمَعْلُومِ يَوْمٌ يَذْبَحُهُ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عَلَى اَلصَّخْرَةِ اَلَّتِي فِي بَيْتِ اَلمَقْدِسِ»(٢٢).
النصُّ الثالث: أنَّ الذي يقتله هو أمير المؤمنين (عليه السلام) في الرجعة:
روى نعيم بن حمَّاد بسنده عَنِ اَلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قَالَ: «خُرُوجُ اَلدَّابَّةِ بَعْدَ طُلُوعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠) تفسير العيَّاشي: ج٢، ص٢٤٢، ح١٤.
(٢١) مختصر بصائر الدرجات: ص٢٦ و٢٧.
(٢٢) تفسير القمِّي: ج٢، ص٢٤٥.
↑صفحة ١٢٦↑
اَلشَّمْسِ، فَإِذَا خَرَجَتْ قَتَلَتِ اَلدَّابَّةُ إِبْلِيسَ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَيَتَمَتَّعُ اَلمُؤْمِنُونَ فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَا يَتَمَنَّوْنَ شَيْئاً إِلَّا أُعْطُوهُ وَوَجَدُوهُ، فَلَا جَوْرَ، وَلَا ظُلْمَ، وَقَدْ أَسْلَمَ اَلْأَشْيَاءُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَاَلمُؤْمِنُونَ طَوْعاً، وَاَلْكُفَّارُ كَرْهاً، وَاَلسَّبُعُ وَاَلطَّيْرُ كَرْهاً، حتَّى إِنَّ اَلسَّبُعَ لَا يُؤْذِي دَابَّةً وَلَا طَيْراً، وَيَلِدُ اَلمُؤْمِنُ فَلَا يَمُوتُ حتَّى يُتِمَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعْدَ خُرُوجِ دَابَّةِ اَلْأَرْضِ، ثُمَّ يَعُودُ فِيهِمُ اَلمَوْتُ فَيَمْكُثُونَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اَللهُ...»(٢٣).
هذا، وقد جمع الشيخ السند هذا الاختلاف بين الروايات بأنَّه محمول على رجعة إبليس وقتله في كلِّ رجعة(٢٤).
إن قلت: إنَّ رجعته تعني عودة المانع بعد رفعه، وبذا يؤثر سلباً على التطبيق الأخلاقي.
قلت: هذا صحيح، وهو أمر طبيعي إلى حدٍّ ما حسب قوانين هذا العالم، ويكون رفعه - في كل مرة يرجع - مشروعاً تكاملياً يدخل ضمن قوانين هذا العالم، وهو أشبه بعودة مرضٍ تمّ علاجه مسبقاً، فإنَّه يبقى أمراً مطلوباً في حدِّ ذاته، ويبقى رفعه رفعاً لمانع من سلامة البدن.
على أنَّ الرفع النهائي لهذا المانع - على كل حال - سيكون تاماً لا عودة له ولو بتعدد الإزالة.
أمَّا ما هو معنى قتل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لإبليس؟
يمكن أنْ يكون بمعنى القتل الحقيقي، وهو الذي يبدو من النصوص السابقة، ويمكن أنْ يكون بمعنى قتل الجذور التي يُحرِّكها إبليس في داخل الإنسان، فينتفي الحافز لاتِّباع خطواته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣) الفتنُ للمروزي: ص٤٠٢.
(٢٤) راجع: الرجعة بين الظهور والمعاد: ج١، ص٢٤٤.
↑صفحة ١٢٧↑
ب - القضاء على الأعداء (الكافرين والمشركين):
يمثل الكافرون والمنافقون والمشركون والمرجفون وأتباعهم جبهات متعدِّدة تعمل على إبعاد الناس عن الدين عموماً، وعن التطبيق الأخلاقي خصوصاً، وقد نبَّه القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا﴾ (البقرة: ٢١٧)، وفي قوله تعالى: ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ﴾ (آل عمران: ١٠٠)، ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ﴾ (آل عمران: ١٤٩)، ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ (البقرة: ١٠٩).
فإبعاد الناس عن الدين، وتشويش عملهم بحرفه عن السلوك المستقيم، هدف من أهدافهم، ومن أجل ذلك هم يمارسون شتَّى أنواع الأساليب والأفعال، وقد أشار القرآن الكريم إلى جملة منها بالآتي:
يذكر القرآن الكريم العديد من الأساليب التي استخدمها الكافرون والمشركون والمنافقون لإبعاد الناس عن الأخلاق والدين. ومن هذه الأساليب:
١- التشكيك في العقيدة والتلاعب بالشبهات: قال تعالى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ (فصلت: ٢٦).
٢- السخرية والاستهزاء بأهل الإيمان: قال تعالى: ﴿وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً﴾ (الأنبياء: ٣٦).
٣- محاولة إغراء المؤمنين بالمال والمناصب: قال تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القلم: ٩).
↑صفحة ١٢٨↑
٤- إثارة الفتن وزرع الشبهات بين المؤمنين: قال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ﴾ (التوبة: ٤٧-٤٨).
٥- السعي لنشر الفساد والانحلال الأخلاقي: قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (النور: ١٩).
ومن ثَمّ سيشكل وجودهم مانعاً من تحقيق السلوك الديني والأخلاقي، وهو مانع قويٌّ لا يُستهان به، وهو ما سيعمل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على القضاء عليه، ومنه نعلم: أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سيعمل على تقويض الموانع الداخلية والخارجية (بقتل إبليس، وبقتل الأعداء، أو إضعاف قوتهم وجعلهم تحت رعاية الدولة المهدوية ورقابتها، أو بهدايتهم إلى الدين ليكونوا عناصر نافعة في المجتمع).
والنصوص الدالّة على هذا المعنى أكثر من ان تُحصى كما أشرنا، منها ما جاء في خطبة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الغدير: «أَلَا إِنَّهُ اَلمُنْتَقَمُ مِنَ اَلظَّالِمينَ»(٢٥).
وعن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: ٤١] قال: «هذه الآية لآل محمد، الإمام المهدي وأصحابه يملكهم الله مشارق الأرض ومغاربها، ويظهر الدين ويميت الله (عزَّ وجلَّ) به وبأصحابه البدع والباطل، كما أمات السفهة الحق، حتَّى لا يرى أثر من الظلم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولله عاقبة الأمور»(٢٦).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٥) روضة الواعظين: ص٩٧.
(٢٦) تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة للسيد شرف الدين علي الحسيني الاسترابادي: ج١، ص٣٤٣.
↑صفحة ١٢٩↑
وعن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١٤٠] قال: «ما زال منذ خلق الله آدم دولة لله ودولة لإبليس فأين دولة الله؟ أما هو قائم واحد»(٢٧).
ج - القضاء على الفقر والحاجة المادية:
لا يختلف اثنان في أنَّ الفقر والحاجة يُغيران من السلوك لدى الفرد، وقد يتنازل بعضٌ عن شيء من مبادئه من أجل دفع الفقر أو التقليل من تأثيره السلبي، فليس كل سارق يسرق عن مهنة، فهناك من يسرق عن حاجة، مما يعني أنَّ الأخلاق قد تتهاوى بين جدران الفقر، وقد تذوب بين يدي الحاجة!
هذا الأمر ليس دائماً، فالجميع يشهد على وجود فقراء ما تنازلوا عن مبادئهم ولو ماتوا جوعاً، وما تغيَّرت أخلاقهم ولو أثَّر فيهم الفقر وأعوزتهم الحاجة، إلَّا أنَّ الفقر - على كل حال - مانع من التمسك بالأخلاق، ومع شيء من ضعف الإيمان أو الضغط النفسي أو الاجتماعي، قد يتجاوز بعض الفقراء حدوده العقلائية والدينية والأخلاقية، وهو أمر وجداني معاش.
هذا المانع أيضاً سيرتفع في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وسيكون الغنى على أعلى مستوياته المتصوّرة، بحيث لا يجد الغنيُّ فقيراً ليُعطيه زكاته، على أنَّ العطاء منه (عجَّل الله فرجه) سيكون هنيئاً، وكثيراً، ولن يردّ أحداً جاءه يطلب مالاً...
حتَّى الديون، تلك التي تقضّ المضاجع وتظلّم النهار بوجه المديون، سيقضيها الإمام (عجَّل الله فرجه) عن أتباعه، والنصوص في ذلك أكثر من أن تُحصى، ومنها التالي:
رويَ عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) يقول: «القائمُ منصورٌ بالرعبِ مؤيدٌ بالنصر، تطوى له الأرضُ وتظهرُ له الكنوز، ويبلغُ سلطانه المشرقَ والمغرب، ويظهرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧) بحار الأنوار للمجلسي: ج٥١، ص٥٤، ح٣٨؛ عن تفسير العياشي: ج١، ص١٩٩، ح١٤٥.
↑صفحة ١٣٠↑
اللهُ (عزَّ وجلَّ) به دينَه ولو كره المشركون، فلا يبقى في الأرضِ خراب إلَّا عمر»(٢٨).
وعن أبي سعيدٍ الخدري (رضي الله عنه) قال: قالَ رسولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ينزلُ بأُمَّتي في آخرِ الزمانِ بلاءٌ شديدٌ من سلطانهم، لم يسمعْ ببلاءٍ أشدّ منه، حتَّى تضيق عليهم الأرضُ الرحبة، حتَّى تملأ الأرضُ جوراً وظلماً، لا يجدُ المؤمنُ ملجأ يلتجئ إليه من الظلمِ، فيبعث اللهُ (عزَّ وجلَّ) رجلاً من عترتي، فيملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً، كما مُلئتْ جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكنُ السماءِ وساكنُ الأرض، لا تدّخرُ الأرضُ من بذرِها شيئاً إلَّا أخرجته، ولا السماءُ من قطرِها شيئاً إلَّا صبّه اللهُ عليهم مدراراً»(٢٩).
وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «لا يزالُ بكم الأمرُ حتَّى يولد في الفتنةِ والجورِ من لا يعرفُ غيرَها حتَّى يملأ الأرض جوراً، فلا يقدرُ أحدٌ يقولُ: الله، ثم يبعثُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) رجلاً منّي ومن عترتي، فيملأ الأرضَ عدلاً كما ملأها من كانَ قبله جوراً، وتُخرج له الأرضُ أفلاذَ كبدها، ويحثو المالَ حثواً ولا يعده عدّاً، وذلك حينَ يضربُ الإسلامُ بجرانه»(٣٠).
وعن المفضل بن عمر قال: سمعتُ أبا عبدِ الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ قائمَنا إذا قامَ أشرقتِ الأرضُ بنورِ ربِّها... ويطلبُ الرجلُ منكم من يصله بماله ويأخذُ منه زكاته فلا يجدُ أحداً يقبلُ منه ذلك، استغنى الناسُ بما رزقَهم اللهُ من فضله»(٣١).
المطلب الثالث: نماذج من الأخلاق العملية في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
لا يمكننا حصر النماذج الأخلاقية التي ستُطبّق في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨) بحار الأنوار للمجلسي: ج٥٢، ص١٩١.
(٢٩) عقد الدرر للمقدسي: ص٤٤.
(٣٠) أمالي الشيخ الطوسي: ص٥١٣، والجران: مقدم عنق البعير، واستعاره هنا للتمكن والثبات (هامش المصدر).
(٣١) الإرشاد، الشيخ المفيد: ج٢، ص٣٨١.
↑صفحة ١٣١↑
إذ لا نحتمل أنَّ النصوص قد تعرَّضت لكل ذلك، على أنَّ النصوص التي وصلت إلينا هي أقل بكثير مما صدر عن أهل البيت (عليهم السلام)، فضلاً عن أنَّنا لا نتوقَّع من النصوص أن تقوم بعملية إحصاء ومسح ميداني لكل التطبيقات الأخلاقية آنذاك، وإنَّما هي تذكر نماذج، وبعض ما تذكره - كما نتوقع - جاء على نحو القاعدة العامة التي يُمكن أن تدخل تحتها تطبيقات متكثرة، كما هو حال الأحكام الشرعية الكلية.
وبعد أن ذكرنا المبادئ الأساسية التي ستكون وراء تركيز النفوس على عمل الخير، وإنعاشها بترك الشر، يُمكن أن نذكر نماذج جزئية لذلك، وبعضها أيضاً أشبه بالقاعدة، وهي الآتي:
النموذج الأول: تقديم الواجب على المستحب عند التعارض:
الواجب والمستحب، حكمان شرعيان، لا مانع من أدائهما معاً، وأمّا لو حصل تدافع بينهما، فلا ريب في تقدّم الواجب، إلَّا أنَّه في بعض الأحيان يكون التدافع شخصياً، وحينها تُلقى مهمة تقديم الواجب على المستحب على المكلّف، كما لو ضاق الوقت عن أداء نافلة الفجر، بحيث كان أداؤها يستلزم خروج الوقت المخصص لأداء صلاة الصبح الواجبة، حينها يلزم أن يقدّم الفرض على النافلة كما هو واضح، وأمّا إذا كان ذلك جماعياً - إذا صح التعبير -، بأن كان تقديم المستحب ومزاحمته للواجب صادراً من مجموعة كبيرة من المؤمنين، مع عدم توجه الحرمة على الفرد في ذلك، وأوضح مثال لذلك هو الطواف المستحب، فإنَّه لم نجد فتوى تمنع أو تحرم على الفرد أن يطوف مستحباً وإن كان هناك من يريد أن يطوف واجباً.
لكن في مثل هذه الحالة، يُمكن لولي الأمر أن يمنع من الطواف المستحب لإتاحة الفرصة لمن يريد أداء طوافه الواجب، وتحديد موضوع هذا المعنى يحتاج إلى عمق فقهي قد لا يملكه غير المعصوم، وهو ما ورد في بعض النصوص
↑صفحة ١٣٢↑
من أنَّه (عجَّل الله فرجه) يأمر بخروج الذي يطوف مستحباً لإتاحة الفرصة لمن يطوف واجباً، فقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: «أَوَّلُ مَا يُظْهِرُ الْقَائِمُ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ يُنَادِيَ مُنَادِيه أَنْ يُسَلِّمَ صَاحِبُ النَّافِلَةِ لِصَاحِبِ الْفَرِيضَةِ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ والطَّوَافَ»(٣٢).
النموذج الثاني: عموم العدل:
حسن العدل وقبح الظلم مما لا يختلف فيه عاقلان، إلَّا أنَّهم قد يختلفون في بعض التطبيقات، ولذا تجد أنَّ الظالم يدَّعي العدل في ظلمه لخصومه، وقد يصدقه بعض أتباعه أو حتَّى قد يعتقدون بعدله في ذلك.
أما إذا كان التطبيق صادراً من المعصوم، فإنَّك لن تجد فيه خلاف الواقع البتة، ولذلك أخبرت النصوص أنَّ عدل الإمام (عجَّل الله فرجه) سيكون عامّاً شاملاً لكل الأرض، ولكل الأشخاص، وهذا الأمر سيورث الاطمئنان بعدم حيف الحاكم ولا أتباعه على الرعية، وهو تطبيق أخلاقي لا مثيل له إلَّا في دولته (عجَّل الله فرجه).
وقد عبَّرت النصوص عن هذا المعنى بتعبيرات متعدِّدة:
فمنها: شمول عدله وفرضه على الجميع، فلا يُستثنى منه أحد، وقد عبَّرت النصوص عن هذا المعنى بدخول العدل أجواف البيوت رغماً... فعن الفضيل بن يسار، قال: سمعتُ أبا عبدِ الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ قائمَنا إذا قامَ استقبلَ من جهلِ الناسِ أشدَّ ممّا استقبله رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من جهالِ الجاهلية»، قلت: وكيف ذاك؟ قال (عليه السلام): «إنَّ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أتى الناس وهم يعبدون الحجارةَ والصخورَ والعيدانَ والخشبَ المنحوتة، وإنَّ قائمنا إذا قامَ أتى الناسَ وكُلّهم يتأوّلُ عليه كتابَ اللهِ يحتجُّ عليه به»، ثم قال (عليه السلام): «أما واللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢) الكافي للكليني: ج٤، ص٤٢٧، بَابُ نَوَادِرِ الطَّوَافِ، ح١.
↑صفحة ١٣٣↑
ليدخلنّ عليهم عدلُه جوفَ بيوتِهم كما يدخلُ الحر والقر»(٣٣).
ولعل في هذا التعبير إشارة إلى عموم العدل رغماً على الجميع، ولعله إشارة إلى أن العدل يصل حتَّى إلى داخل الأُسرة الواحدة، فرغم أنَّ الأُسرة يُمكنها أن تخفي بعض الظلم داخل أروقتها، إلَّا أنَّه وفي دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لا يمكن ذلك، بل العدل سيكون شاملاً لها وفي داخلها.
ومنها: إنهاء المحسوبيات، فكون الفرد من المقربين للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لا يُعفيه من تطبيق العدل عليه، فإن كان مذنباً جرى العدل عليه كما يجري على عامّة الناس، وهذا لعمري لا تجده إلَّا في دولة يحكمها المعصوم، فقد روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «بينا الرجل على رأس القائم يأمر وينهى إذ أمر بضرب عنقه، فلا يبقى بين الخافقين شيء إلَّا خافه»(٣٤).
ولعل المقصود من مثل هذا الحديث أنَّ المنافقين لا يتمكنون من خداع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حتَّى لو وصلوا إلى مراتب عالية في دولته، ولعل المقصود هو أن أي أحد يخرج عن الاستقامة فإنَّ العدل يجري عليه حتَّى لو كان من المقربين.
وعلى المنوال نفسه ما ورد من أنَّه يقتل رجالاً من قريش، فإنَّه وإن كان يشير إلى عداوة قريش له بالخصوص، إلَّا أنَّه يشير أيضاً إلى أنَّ العلاقات النسبية لن تكون مانعاً من تطبيق العدل في دولته (عجَّل الله فرجه)، وقد روي عن بشر بن غالب الأسدي، قال: قال لي الحسين بن علي (عليهما السلام): «يا بشر، ما بقاء قريش إذا قدم القائم المهدي منهم خمسمائة رجل فضرب أعناقهم صبراً، ثم قدم خمسمائة فضرب أعناقهم صبراً، ثم خمسمائة فضرب أعناقهم صبراً»، قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٣) الغيبة للنعماني: ص٣٠٧، بَاب ١٧ ما جاء فيما يلقى القائم (عجَّل الله فرجه) ويستقبل من جاهلية الناس، وما يلقاه الناس قبل قيامه من أهل بيته، ح١.
(٣٤) الغيبة للنعماني: ص٢٤٦، ب١٣، ح٣٢.
↑صفحة ١٣٤↑
فقلت له: أصلحك الله، أيبلغون ذلك؟ فقال الحسين بن علي (عليهما السلام): «إنَّ مولى القوم منهم...»(٣٥).
وفي هذا النص إشارة إلى أنَّ (مولى القوم منهم) بمعنى أنَّ من يتولى قريشاً أو غيرهم فإنَّه يُعدّ منهم، وهو ما تؤكده النصوص الدينية، وأوضح مثال على ذلك في القضية المهدوية ما روي في سبب قتله (عجَّل الله فرجه) لذراري قتلة الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد روي عَنْ عَبْدِ اَلسَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ اَلْهَرَوِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى اَلرِّضَا (عليه السلام): يَا بْنَ رَسُولِ اَلله، مَا تَقُولُ فِي حَدِيثٍ رُوِيَ عَنِ اَلصَّادِقِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا خَرَجَ اَلْقَائِمُ قَتَلَ ذَرَارِيَّ قَتَلَةِ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام) بِفِعَالِ آبَائِهَا»، فَقَالَ (عليه السلام): «هُوَ كَذَلِكَ»، فَقُلْتُ: فَقَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾، مَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: «صَدَقَ اَللهُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ، لَكِنَّ ذَرَارِيَّ قَتَلَةِ اَلْحُسَيْنِ يَرْضَوْنَ أَفْعَالَ آبَائِهِمْ وَيَفْتَخِرُونَ بِهَا، وَمَنْ رَضِيَ شَيْئاً كَانَ كَمَنْ أَتَاهُ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً قُتِلَ فِي اَلمَشْرِقِ فَرَضِيَ بِقَتْلِهِ رَجُلٌ فِي اَلمَغْرِبِ لَكَانَ اَلرَّاضِي عِنْدَ اَلله شَرِيكَ اَلْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا يَقْتُلُهُمُ اَلْقَائِمُ إِذَا خَرَجَ لِرِضَاهُمْ بِفِعْلِ آبَائِهِمْ...»(٣٦).
هذا فضلاً عن أنَّ أخذ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الميثاق على أصحابه بفقرات متعدِّدة - تقدَّم ذكر النص في ذلك -، والتزامه هو بالزهد وعدم التأثر ببهارج الدنيا وسلطتها، هذا بنفسه كافٍ ليأس ذوي المآرب الملتوية من الحصول على استثناءات لهم، أو الحصول على إجازات بارتكاب المخالفات في تلك الدولة العادلة.
النموذج الثالث: التكافل الاجتماعي (يقضي الدين) مثلاً:
لا يتوقَّف التكافل الاجتماعي في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند حدود الزكاة وخمس الأموال وزكاة الفطرة، وإنَّما تتكفل الدولة قضاء ديون المؤمنين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٥) الغيبة للنعماني: ص٢٤٠، ب١٣، ح٢٣.
(٣٦) علل الشرائع: ج١، ص٢٢٩، باب ١٦٤، ح١.
↑صفحة ١٣٥↑
مهما عظمت أو صغرت، وهذا التطبيق الأخلاقي لا تجده في دولة اليوم، ولن نجده إلَّا في دولة يحكمها المعصوم (عليه السلام).
فقد روي أنَّ المفضَّلَ قال للإمام الصادق (عليه السلام): يا مولاي، من ماتَ من شيعتِكم وعليه دينٌ لإخوانه ولأضداده كيفَ يكون؟ قالَ الصادق (عليه السلام): «أوَّلُ ما يبتدئُ المهديُ (عليه السلام) أنْ يُنادي في جميعِ العالم: ألَا من له عندَ أحدٍ من شيعتنا دَينٌ فليذكره، حتَّى يردَّ الثومةَ والخردلة، فضلاً عن القناطيرِ المُقنطرة من الذهبِ والفضَّةِ والأملاك، فيوفّيه إيّاه»(٣٧).
النموذج الرابع: آداب وأخلاقيات الحرب:
الغاية تبرر الوسيلة... هو هدف الكثير من الظلمة في مجال التخلّص من أعدائهم، فإحراقُ الأخضر واليابس، وقتل الصغير والكبير، واقع نشاهده في الكثير من الحروب... وقد حفظ لنا التاريخ وثائق سوداء، وأخبرنا بأخرى مثلها تقع في المستقبل.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أَمَّا مَوْلِدُ مُوسَى (عليه السلام)، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَـمَّا وَقَفَ عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِ عَلَى يَدِهِ، أَمَرَ بِإِحْضَارِ الْكَهَنَةِ، فَدَلُّوهُ عَلَى نَسَبِهِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَزَلْ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِشَقِّ بُطُونِ الْحَوَامِلِ مِنْ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حتَّى قَتَلَ فِي طَلَبِهِ نَيِّفاً وَعِشْرِينَ أَلْفَ مَوْلُودٍ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إِلَى قَتْلِ مُوسَى (عليه السلام) بِحِفْظِ اللهِ (تَبَارَكَ وَتَعَالَى) إِيَّاهُ، وَكَذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْعَبَّاسِ، لَـمَّا وَقَفُوا عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِمْ وَمُلْكِ الْأُمَرَاءِ وَالْجَبَابِرَةِ مِنْهُمْ عَلَى يَدِ الْقَائِمِ مِنَّا، نَاصَبُونَا الْعَدَاوَةَ، وَوَضَعُوا سُيُوفَهُمْ فِي قَتْلِ آلِ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَإِبَادَةِ نَسْلِهِ طَمَعاً مِنْهُمْ فِي الْوُصُولِ إِلَى قَتْلِ الْقَائِمِ، وَيَأْبَى اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يَكْشِفَ أَمْرَهُ لِوَاحِدٍ مِنَ الظَّلَمَةِ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ...»(٣٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٧) بحار الأنوار للمجلسي: ج٥٣، ص٣٤.
(٣٨) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص٣٥٤، ب٣٣، ح٥٠.
↑صفحة ١٣٦↑
وجاء في مرسلة المقدسي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في سياق ذكر جرائم السفياني وما يفعله من الفواحش وسفك الدم الحرام، أنَّ الملائكة تضج إلى الله تعالى، فيأمر الله تبارك وتعالى جبرئيل بأن ينادي من على سور مسجد دمشق بأنَّ الفرج والغوث قد جاء لأُمَّة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقد جاء فيها: «فإذا دخل دمشق اعتكف على شرب الخمر والمعاصي، ويأمر أصحابه بذلك، ويخرج السفياني وبيده حربة، فيأخذ امرأة حاملاً، فيدفعها إلى بعض أصحابه، ويقول: افجر بها في وسط الطريق، فيفعل ذلك ويبقر بطنها، فيسقط الجنين من بطن أُمِّه، فلا يقدر أحد أن يغير ذلك، فتضطرب الملائكة في السماء، فيأمر الله (عزَّ وجلَّ) جبريل (عليه السلام) فيصيح على سور مسجد دمشق: ألا قد جاءكم الغوث يا أُمَّة محمد، قد جاءكم الغوث يا أُمَّة محمد، قد جاءكم الفرج، وهو المهدي (عليه السلام)، خارج من مكة، فأجيبوه»(٣٩).
روي أنَّه يبعثُ السفياني جيشاً إلى المدينة، فيأمرُ بقتلِ كُلِّ من كانَ فيها من بني هاشم حتَّى الحبالى...(٤٠).
وهذا أمر رفضه الإسلام أشد الرفض، فكان النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوصي جنوده عندما يرسلهم في مهمة عسكرية فعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: «كَانَ رَسُولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ سَرِيَّةً دَعَاهُمْ فَأَجْلَسَهُمْ بَيْنَ يَدَيْه ثُمَّ يَقُولُ: سِيرُوا بِسْمِ الله وبِالله وفِي سَبِيلِ الله وعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ الله لَا تَغُلُّوا ولَا تُمَثِّلُوا ولَا تَغْدِرُوا ولَا تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً ولَا صَبِيّاً ولَا امْرَأَةً ولَا تَقْطَعُوا شَجَراً إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا إِلَيْهَا»(٤١).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٩) عقد الدرر للمقدسي: ص٩٤.
(٤٠) الملاحم والفتن - السيد ابن طاووس: ص١٢٦، بَاب ١٠٩، ح١٣٠. وهي ضعيفة السند.
(٤١) الكافي للكليني: ج٥، ص٢٧، بَابُ وَصِيَّةِ رَسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي السَّرَايَا، ح١.
↑صفحة ١٣٧↑
وعلى هذا المنوال سيكون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في حروبه ومعاركه، فالأخلاق حاضرة فيها بمعنى الكلمة، حتَّى أنَّه رويَ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يُبايَعُ القائمُ بمكة على كتابِ اللهِ وسُنّةِ رسوله، ويستعملُ على مكة، ثم يسيرُ نحوَ المدينة فيبلغه أنَّ عاملَه قتل، فيرجعُ إليهم فيقتلُ المقاتلة، ولا يزيدُ على ذلك...»(٤٢).
فالرواية تصرِّح وتؤكِّد على أنَّه (عجَّل الله فرجه) لا يُقاتل إلَّا من يُقاتله، وأمّا غيرهم فإنَّه لا يتعرض لهم البتة، وهذه أخلاق سلسل النبوة وفرع الإمامة...
ومن الآداب أنَّه (عجَّل الله فرجه) لا يبدأ خصومه بقتال، بل يبدو من بعض النصوص أنَّه يأمر أصحابه بالرجوع التكتيكي أمام العدو(٤٣)، ولعله من باب إرادة هدايتهم من دون قتال، فيحاول أن يبتعد عن قتالهم، فإذا ما رآهم مصرّين على قتله وقتاله، فلا مناص من منازلتهم القتال.
فقد جاء في الرواية عن أبي جعفر (عليه السلام) في سياق حديثه عن تحرُّك جيش الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لملاقاة جيش السفياني أنَّه سيتَّخذ طريق النخيلة، قَالَ (عليه السلام): «... حتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) بِالنُّخَيْلَةِ، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ بِالْكُوفَةِ مِنْ مُرْجِئِهَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ جَيْشِ اَلسُّفْيَانِيِّ، فَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: اِسْتَطْرِدُوا لَهُمْ(٤٤)، ثُمَّ يَقُولُ: كرُّوا عَلَيْهِمْ»، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «وَلَا يَجُوزُوا وَاَلله اَلْخَنْدَقَ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ»(٤٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٢) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج٥٢، ص٣٠٨.
(٤٣) وهو ما فسره به الجوهري، ففي البحار: ج٥٢ ص٣٤٦: قال الجوهري: مطاردة الأقران في الحرب حمل بعضهم على بعض يقال: هم فرسان الطراد، وقد استطرد له وذلك ضرب من المكيدة.
(٤٤) ومطاردة الأقران في الحرب: حمل بعضهم على بعض، يقال: هم فرسان الطراد. وقد استطرد له، وذلك ضرب من المكيدة. [الصحاح للجوهري: ج٢، ص٥٠٢].
(٤٥) تفسير العيَّاشي: ج٢، ص٥٩، ح٤٩.
↑صفحة ١٣٨↑
وهذا أدب موروث منه عن آبائه (عليهم السلام)، فقد روى الشيخ المفيد قال: ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين من ذلك، فقال له: دعني حتَّى أرميه فإنَّ الفاسق من عظماء الجبارين، وقد أمكن الله منه. فقال له الحسين (عليه السلام): «لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم»(٤٦).
الخاتمة:
إنَّ الدولة المهدوية تمثّل النموذج الأمثل لتحقيق القيم الأخلاقية على أرض الواقع، حيث تتجسَّد العدالة والمساواة في أرقى صورها، ويُطبّق القانون بروح العدل والإنصاف، ومن خلال المبادئ والتطبيقات التي ستُعتمد في هذه الدولة، ستتحقق بيئة اجتماعية قائمة على التكافل والتسامح والاحترام المتبادل.
إنَّ تحقيق مثل هذا المجتمع المثالي يتطلب جهداً مشتركاً من الأفراد والمؤسسات، بحيث يتم تعزيز الوعي الأخلاقي، وإزالة العقبات التي تعيق تحقيق العدالة، والعمل على نشر ثقافة الخير والإحسان بين الناس. وبذلك، تكون الدولة المهدوية نموذجاً يُحتذى به في إقامة مجتمع فاضل تسوده القيم النبيلة والمبادئ الإلهية السامية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٦) الإرشاد للشيخ المفيد: ج٢، ص٩٦.
↑صفحة ١٣٩↑