شبهتان في العقيدة المهدوية: - عدم تعرض البخاري ومسلم للقضية المهدوية. - تضعيف ابن خلدون للروايات المهدوية.
شبهتان في العقيدة المهدوية:
- عدم تعرض البخاري ومسلم للقضية المهدوية.
- تضعيف ابن خلدون للروايات المهدوية.
الشيخ كاظم القره غولي
↑صفحة ٠↑
لا وجه لإنكار المهدي (عجَّل الله فرجه) إلَّا مجرد الاستبعاد:...................١٠
العلم التجريبي لا ينفع في المقام:...................١٥
نفي محمد فريد وجدي لعقيدة المهدي في موسوعته:...................١٦
أساس النفي عند بعض النافين:...................١٩
الشبهة الأولى: عدم ذكر روايات المهدي (عجَّل الله فرجه) في الصحيحين:...................٢٠
رد شبهة دلالة (عدم نقل البخاري ومسلم) على ضعف روايات المهدي:...................٢١
قلة ما رواه البخاري ومسلم عن علي (عليه السلام):...................٢٧
هل تعلمون كم هي الروايات التي رووها عن عائشة؟...................٣١
المبالغة في شخصية البخاري وحفظه للحديث:...................٣٩
إيراد على دلالة ترك نقل الحديث على ضعفه:...................٤١
الشبهة الثانية: تضعيف ابن خلدون لروايات المهدي (عجَّل الله فرجه):...................٤٢
الأول: عدم التخصص في نقد الأسانيد وتقييمها:...................٤٣
الثاني: اعترافه بأن بعض الأخبار التي ذكرها صحيحة:...................٤٤
الثالث: عدم صحة بعض مستندات رد الرواية عنده:...................٤٦
الرابع: اعترافه بأنَّ جماعة من الأئمة خرَّجوا أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه):...................٤٨
الخامس: بطلان ادعائه استيفاء أخبار المهدي (عجَّل الله فرجه):...................٤٨
الحب يعمي ويصم:...................٤٩
أخبار المهدي متواترة عند القوم:...................٥١
السادس: سلبية موقف ابن خلدون من أهل البيت (عليهم السلام):...................٥٣
لا مهدي إلَّا عيسى:...................٥٥
↑صفحة ٠↑
الحمد لله على عظيم نعمائه وله الشكر على تنوع آلائه، وصلواته على خاتم أنبيائه محمد المصطفى خيرة الورى وسيد أهل الحجى وخير من تقمَّص وارتدى، وعلى آله سادة الأنام والأئمة الكرام.
وبعد فما زالت الدنيا مليئة بالجاحدين والمنكرين والمشككين في كل ما يرجع إلى الدين ومعارفه، وأكبر مشاكلنا مع شركائنا في الدين الذين صبُّوا جلّ اهتمامهم في إبطال ما انفردنا به، وربما إحالة ما اعتقدنا به، ولم يتكلموا في مشتركاتنا معهم مقابل الكافرين بمقدار ما تكلموا في الإيراد على معتقداتنا وردّ أدلَّتنا.
بين يديك عزيزي القارئ شبهتان تمسَّك بهما قوم من العامة، بل كثير من رجالاتهم للتشكيك في دولة الحق التي ستملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، نحاول دفعهما بما يقطع منابت الشك لمن أراد أن يبصر الحق بعيداً عن التأثر بالذين لا يوقنون.
وهما:
١ - عدم تعرض البخاري ومسلم لظهور المهدي (عجَّل الله فرجه) في صحيحيهما.
٢ - تضعيف ابن خلدون لروايات المهدي (عجَّل الله فرجه).
↑صفحة ٩↑
وقد تعرضت قبل الدخول في جواب الشبهتين لبيان إباء المسألة عن دخالة العلم التجريبي، وبعض الوجوه التي قيل إنها تثبت استحالة قيام دولة الحق.
أسأل الله التوفيق وأن يجعل عملنا مما رضيه سيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه) إنه خير مسؤول.
لا وجه لإنكار المهدي (عجَّل الله فرجه) إلَّا مجرد الاستبعاد:
إن ثبوت الأشياء أو ثبوت أشياء لأشياء لا يخرج عن أحد احتمالات ثلاثة:
١ - أن يكون قطعياً وضرورياً.
٢ - أن يكون مستحيلاً.
٣ - أن يكون ممكناً.
والأول والثاني يحتاجان إلى دليل بخلاف الثالث، إذ توجد بين الضرورة والاستحالة واسطة وهي الإمكان، وعدم العثور على دليل يثبت الضرورة لا يعني الاستحالة.
ومهما حاول المنكر أن يجد دليلاً لإنكاره فإنه لن يجد إلَّا بعض وجوه الاستبعاد التي لا تنهض لنفي معتقد قام عليه الدليل، إذ كما تقدَّم أنَّ الاستحالة تحتاج إلى دليل كما أنَّ إثبات المدعى يحتاج إلى دليل، وليس في التكوين شيء يصلح للاستناد إليه كدليل لا على النفي ولا على الإثبات، فقد ترك التكوين هذه المسألة (في كشفه) على حدود الإمكان وأعلن حياديته فيها، فانحصر الأمر بالبعد الغيبي الذي لا يمكن للتكوين أن ينفيه في الممكنات ذاتاً والتي منها مسألتنا.
وأنَّى للتكوين أن ينفي أمراً في وقت ثبت ما هو أغرب منه؟ أليس عود الحياة لبدن قد تفسخ لم تبق منه إلَّا عظام وهي رميم أبعد من بقاء
↑صفحة ١٠↑
حياة فرد لتعبر القرون الكثيرة؟ وعزير (عليه السلام) قد مات لمائة عام كما تصرِّح الآية ﴿فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ﴾ (البقرة: ٢٥٩).
أليس إبقاء أبدان على الحياة لـ(٣٠٩) سنوات دون أكل أو شرب أو حتَّى حركة أو نشاط حياتي اختياري أغرب من أن تمتد سنوات عمر شخص لأكثر من ألف سنة؟
﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ (الكهف: ٢٥).
وخلال تلك الفترة كانت ﴿الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ﴾ (الكهف: ١٧).
أليس البعث للحياة في الآخرة لخلود بدن عنصري - كما هو المؤدَّى المقطوع به للأدلَّة الشرعية - أعجب من الحياة المحدودة في الدنيا ولو بلغت آلاف السنين؟
أليس الخلود مع عذاب لا ينقطع للكفار مع أن كل أسباب الانقطاع للحياة موجودة هناك حيث يصف القرآن ذلك إجمالاً بقوله: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ (إبراهيم: ١٧).
بل إنَّ الموت الذي هو ضرورة في الدنيا إنَّما كان بتقدير الله تعالى لا لعدم قابلية الأبدان لاستمرار الحياة.
﴿نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ (الواقعة: ٦٠).
فمحدودية الأعمار لم تفرضها ضرورة عدم قابلية البدن لاستمرار الحياة فيه، بل فرضتها حكمة الله في الخلق وغايات النشأة الدنيا، فالأسباب التكوينية لم تسبق لتفرض على الخالق تعالى محدودية عمر الإنسان، فليس الأمر كآلة يصنعها الإنسان ويتمنَّى أن يطيل عمرها لكن الأسباب تغلبه.
↑صفحة ١١↑
وأمَّا التفصيل ففيه العجب، ففي وصف سقر قال تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ﴾ (المدثر: ٢٦-٢٨).
وفي تآكل الأعضاء يقول تعالى: ﴿كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ﴾ (محمد: ١٥).
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء: ٥٦).
وفي سورة المعارج يقول: ﴿كَلَّا إِنَّها لَظى * نَزَّاعَةً لِلشَّوى﴾ (المعارج: ١٥-١٦).
وقد اختلف في معنى (الشوى) فقيل: الأطراف فلا تترك لحماً ولا جلداً إلَّا أحرقته، وقيل: تنزع الجلد وأم الرأس، وقيل: تنزع الجلد واللحم عن العظم، وقيل: تأكل الدماغ كله...
ومع كل منها يكون حفظ الحياة أعجب.
وفي مورد آخر يقول: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّـرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً﴾ (الكهف: ٢٩).
فإذا قبلنا الخلود في النار رغم هذه الصور من المعاناة وأنواع التعذيب التي لا يمكن حفظ الحياة معها، بل مع جزء منها في الدنيا وفق ما هو مألوف، فكيف ننفي حياة شخص لن تصل إلى الخلود (لأنَّ الدنيا زائلة) دون أي شيء من ذلك؟
إنَّ حكم التكوين القطعي لا فرق فيه بين عالم دنيا وعالم آخرة، نعم قد يختلف الحال بالنسبة للمألوف من التكوين، ونحن لم نقل: إنَّ حياة الإمام (عجَّل الله فرجه) من مألوف التكوين في شيء أبداً، والذي يعزز من الإمكان (وإن لم يقم دليل
↑صفحة ١٢↑
على الإثبات) حصول الحالات المشابهة في التاريخ، بل واستمرارها في زماننا وفق معتقدنا.
أليس عيسى (عليه السلام) حياً منذ أكثر من ألفي سنة؟
أليس الخضر (عليه السلام) حياً كل هذه السنين ومن مدة أقدم من عيسى (عليه السلام)؟
أليس إدريس (عليه السلام) حياً لمدة أكثر من حياة عيسى (عليه السلام)؟
ألم نقبل حياة نوح (عليه السلام) لمدة كانت الدعوة فيها قد امتدت لألف سنة إلَّا خمسين عاماً؟
والنتيجة: حيادية التكوين أمام الضرورة أو الاستحالة في مسألة بقاء الإمام (عجَّل الله فرجه) كل هذه السنين.
وأمّا الإخبار الغيبي فلا يوجد ما يصلح للاستناد إليه لنفي وجود الإمام (عجَّل الله فرجه) إلَّا رواية واحدة على ما يبدو، وقد أشار إليها بعض متتبعي العامة، وهي:
ما رواه محمد بن خالد الجندي وتفرد به عن أنس بن مالك عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: (لا مهدي إلَّا عيسى بن مريم)، والتي قال ابن خلدون عن راويها: إنه ضعيف مضطرب.
وهو محمد بن خالد الجندي الصغاني المؤذن.
فقد قال البيهقي: فرجع الحديث إلى رواية محمد بن خالد الجندي وهو مجهول عن أبان بن أبي عياش وهو متروك عن الحسن عن النبي [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] وهو منقطع، والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح إسناداً وفيها بيان كونه من عترة النبي [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)].
وقال أبو عبد الله الحافظ: ومحمد بن خالد رجل مجهول.
وقال أبو حسن الآبري: ومحمد بن خالد الجندي، وإن كان يذكر عن يحيى بن معين ما ذكرته فإنَّه غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل.
↑صفحة ١٣↑
وقال ابن حجر في التهذيب: قال أبو عمر: محمد بن خالد والمثنى بن الصباح متروكان ولا يثبت هذا الحديث، وقال ابن حجر في التقريب: مجهول.
وقال أبو الفتح الأزدي في الضعفاء: حديثه لا يتابع عليه وإنَّما يحفظ مرسلاً عن الحسن(١).
وقال ابن تيمية: إنَّ الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي [(عجَّل الله فرجه)] أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره(٢).
وقال: وهذه الأحاديث غَلَطَ فيها طوائفُ: طائفة أنكروها واحتجوا بحديث ابن ماجة أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: لا مهدي إلَّا عيسى بن مريم، وهذا الحديث ضعيف، وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه، وليس مما يعتمد عليه، ورواه ابن ماجة عن يونس عن الشافعي، والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن يقال له محمد بن خالد الجندي وهو ممن لا يحتج به، وليس هذا في مسند الشافعي، وقد قيل: إنَّ الشافعي لم يسمعه من الجندي، وأنَّ يونس لم يسمعه من الشافعي(٣).
وقال الذهبي في الميزان: محمد بن خالد عن أبيه عن جده أبي خالد السلمي لا يدرى من هؤلاء، روى عنه أبو المليح الرقي(٤).
نعم، هناك من قبل روايته من العامة، لكن يكفيك جرح البيهقي وابن حجر والذهبي.
وعليه فالرواية - ولو لم تكن معارضة بالمتواتر - لا يمكن القبول بها، فكيف وقد قام التواتر على خلافها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) الضعفاء: ٩/١٤٥؛ وفي جامع الكتب الإسلامية: ج٢٥، ص١٤٦، (محقق).
(٢) منهاج السنة: ٤/٢١١.
(٣) نفس المصدر والصفحة.
(٤) ٣/ الترجمة ٧٤٦٨.
↑صفحة ١٤↑
العلم التجريبي لا ينفع في المقام:
تشكل التجربة قناة لمقاربة الحقيقة والكشف عنها، وقد كانت طريقاً لتطور الرؤية عن الحقائق في الكون واتِّضاح الصورة لكثير من جزئياته، وقد مثلت القناة الأساسية للمعرفة في الحضارة الغربية في نهضتها الحديثة، والانكشاف أمر تكويني ليس بإمكان أحد أن ينكره أو يقلل من شأنه.
ونفس التكوين يفرض مجموعة من المحددات على كاشفية التجربة وحكاية نتائجها عن الواقع، ومنها:
١ - إنَّ استعمال التجربة محدود بما فيه قابلية التجريب، وهو بعض عالم الطبيعة، والماورائيات ليست من هذا العالم، ولذلك تفقّد التجربة قدرتها على الكشف عن الماورائيات والميتافيزيقيا، ولذلك كلَّت التجربة عن أن تعطي رأياً في الرؤى الدينية، فإنَّها عاجزة عن مقاربة مفردات مثل الوحي والملائكة والإمداد الغيبي وحاكمية عالم ما فوق الطبيعة على جزئيات الطبيعة، وعالم الآخرة وما بعد الموت والبعث والنشور والصراط والميزان وغير ذلك.
وبذلك يظهر أنَّ حصر مصدر المعرفة بالتجربة ليس إلَّا دعوى زائفة لم تستند إلى مأخذ ولم تتَّكئ على برهان، بل الدليل قائم على بطلانها فضلاً عن كونها دعوى لا بيّنة ولا مبيّنة.
٢ - إنَّ التجربة لا تكشف إلَّا عن الاقتران بين الأشياء أو تراتبيَّتها، وليس لها القدرة على إدراك وجود رابطة التأثير ونوعها ولا كيفية التأثير في كثير من الحالات.
٣ - إنَّ نتاج التجربة يمثل نوع استقراء، وغاية كشف الاستقراء هو الظن إذا لم يكن تاماً، وأمّا إذا كان تاماً فلا فائدة فيه، فإن الذي يراد من مصادر المعرفة أن توفره هو كشف الحقيقة غير الظاهرة، فإذا صار الاستقراء
↑صفحة ١٥↑
تاماً فهذا يعني أنَّ كل جزئية قد جربت وعرف واقعها، فبماذا ينفعني الاستقراء حينئذٍ؟
٤ - عجز التجربة عن إعطاء رؤية في الحالات النادرة التحقق أو المتفردة في الوجود، كولادة شخص من غير أب، أو خلْقةِ أبي البشر من طين، أو نُطقِ فرد في المهد صبياً، أو إبراءِ الأكمه والأبرص، بل حتَّى إبداء رأي في المعجزات، وامتداد حياة شخص على مسافة طويلة من عمود الزمان، وإعادة الحياة للأفراد الموتى.
نفي محمد فريد وجدي لعقيدة المهدي في موسوعته:
قال وجدي في دائرة معارفه: ورد في الكتب القديمة أنه إذا قربت القيامة وجاءت أشراطها وعم الفساد الأرض أرسل الله رجلاً يقال له: المهدي من عترة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فتولى الخلافة وملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وأنَّه يحكم سبع أو ثمان أو تسع سنين وأن المسيح يصلي خلفه... إلخ(٥).
وبعد خمس صفحات يقول:
هذا ما ورد من الأحاديث في المهدي المنتظر، والناظرون فيها من أولي البصائر لا يجدون في صدورهم حرجاً من تنزيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قولها فإن فيها من الغلو والخبط في التواريخ والإغراق في المبالغة والجهل بأمور الناس والبُعد عن سنن الله المعروفة ما يشعر المطالع لأول وهلة أنَّها أحاديث موضوعة تعمد وضعها رجال من أهل الزيغ أو المشايعين لبعض أهل الدعوة من طلاب الخلافة في بلاد العرب أو المغرب(٦).
ولا أعجب من هذه الطريقة في ردِّ الروايات فقد أتى ببدع من الوجوه في ردِّها حيث ردَّها بـ:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥) دائرة معارف القرن العشرين: مادة هدى، ج١٠، ص٤٧٥.
(٦) نفس المصدر: ص٤٨٠.
↑صفحة ١٦↑
١ - أنَّ فيها غلوا.
٢ - أنَّ فيها خبطاً في التواريخ.
٣ - الإغراق في المبالغة.
٤ - الجهل بأمور الناس.
٥ - البُعد عن سنن الله المعروفة.
ثم يستنتج أن المطالع ولأول وهلة يشعر أنَّها أحاديث موضوعة تعمد...
وفي مقام الرد نقول:
١ - الغلو: هو تجاوز الحد، ولكي تصف مفردة ما بالغلو فلابد في رتبة سابقة من معرفة الحد ليتبيَّن عند تجاوزه حصول الغلو، وفي محل كلامنا لم يحدِّد الحدّ عند الواصف بالغلو، فأي تجاوز للحد عندما تأتي رواية تقول: إنَّ في آخر الزمان دولة حق تملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً؟ وأنَّ قائدها ومقيمها هو شخص من عترة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ هل في ذلك تجاوز لمحدد ليقال في وصف النقل: إنَّه غلو؟ هل في الأمر استحالة؟ وعلى ماذا تستند للقول بالاستحالة أو لتحديد الحد ليكون تجاوزه غلواً؟
٢ - الخبط: وهي كلمة تعددت استعمالاتها في اللغة، لكن المراد هنا السير على غير هدى وفعل الشيء عن جهل.
وهل في نقل الروايات المتعدِّدة عمَّن أخبرنا بأنباء السماوات والأرض وعالم الدنيا وعالم الآخرة خبط في التواريخ؟ ثم ما علاقة المسألة بالتاريخ، بل حتَّى باستشراف المستقبل؟ إنَّما أنقل رواية أو روايات عمن حاله وفق وصف القرآن أنَّه ما ينطق عن الهوى، إنَّما هو وحي يوحى.
٣ - الإغراق في المبالغة: الإغراق هنا لا يتحمل معنى إلَّا الإطناب والإسهاب، ولا تأتي بقية المعاني كالمبالغة، والإماتة بالخنق بالماء، ولا إنزال السفينة إلى قعر الماء، ولا تدفق السلع الذي يؤدي إلى عجز الإنتاج المحلي عن المنافسة.
↑صفحة ١٧↑
ونقل الروايات ليس فيه مبالغة فضلاً عن الإغراق فيها، فالمبالغة إنما تصدق إذا كان هنا حقيقة ما أو حالة ما فتجاوزتُ في وصفها واقعها، وهذا يعني وجود واقع محدد ثم يبرز أو يوصف بنحو يتجاوز ذلك الواقع.
فما الواقع الذي يتجاوزه ناقل رواية أو حتَّى واضعها في محل البحث كما يريد هذا المتحدث أن يقول؟
٤ - أمّا الجهل بأمور الناس: فهو أغرب وصف في هذا المحل، فما هي أمور الناس التي جهلها متحدث عن مرحلة مستقبلية في حياة النوع الإنساني، ويريد على أساسها نفي قيام دولة حق تعلقت بقيامها إرادة إلهية غالبة؟
أم يريد أن يقول: إن حال الناس على مر الدهور يمنعنا من قبول قيام دولة ينتشر فيها العدل؟ وهل ذلك قطعي؟ من كان يتصور أن أمة العرب ستؤسس حضارة تحكم أطراف الدنيا يقودها من لم يكن أهله يعرفون القراءة والكتابة ولم يعيشوا أي حالات التحضر ولا الحياة المدنية، لا يحملون تصورات واقعية عن الكون ولا يمتلكون مفردة من مفردات الثقافة ولم يعهد منهم سياسة أمة وإدارة اقتصاد ولا ولا ولا...
من كان يتخيل حصول مثل هذا التحول خلال هذه المدة القياسية في القِصَر؟ فلماذا نستبعد أن الله تعالى سيجمع كلمة الناس في مرحلة على إطاعة إمام مفترض الطاعة بعد أن تتقاذفهم الأهوال ويغرقهم الانحطاط الأخلاقي؟
٥ - البعد عن سنن الله المعروفة: إنَّ التاريخ مليء بالمعجزات التي في كلها خروج عن سنن الله المعروفة، فهل من سنن الله المعروفة خروج الناقة وفصيلها من الصخرة، أو صيرورة النار برداً وسلاماً على من يُلقى فيها بالمنجنيق، أو انفجار عيون الأرض، وفتح أبواب السماء بماء منهمر لتغرق الأرض بجبالها، أو شق البحر ليكون كل فِرْقٍ كالطود العظيم، أو بقاء شخص في بطن حوت لثلاثة أيام، أو انقلاب مدينة فيجعل أعلاها أسفلها أو إحياء الموتى أو أو أو...
↑صفحة ١٨↑
وهل يشكِّل ذلك وجهاً معتمداً لنفي تحقق مفردة في التكوين ممكنة في نفسها وقام الدليل الشرعي عليها؟ أوَ يكون الاستغراب كافياً كمستند للنفي فيكون على وزان: ﴿أَبَشَـراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ﴾ (القمر: ٢٤)، ووزان ﴿ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ﴾ (ص: ٧).
أساس النفي عند بعض النافين:
أساس الإشكال الذي بني عليه رأي بعض الكُتّاب المسلمين في مسألة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يرجع إلى نقطتين:
١ - عدم ورود شيء من الروايات في الصحيحين.
٢ - تضعيف ابن خلدون لأسانيدها.
ومما تعرض إلى الأول ما ورد في كلمات أبي الأعلى المودودي حيث قال:
والأحاديث في هذه المسألة - مسألة المهدي - على نوعين: أحاديث فيها الصراحة بكلمة (المهدي)، وأحاديث إنما أخبر فيها بخليفة يولد في آخر الزمان ويعلي كلمة الإسلام، وليس سند أي رواية من هذين النوعين من القوة بحيث يثبت أمام مقياس الإمام البخاري لنقد الروايات، فهو لم يذكر منها أي رواية في صحيحه، وكذلك ما ذكر منها الإمام مسلم إلَّا رواية واحدة في صحيحه، ولكن ما جاءت أيضاً الصراحة بكلمة المهدي، وأمّا الروايات في الكتب الأخرى - غير الصحيحين - فقد جمعناها كلها تقريباً في الذيل الثاني(٧).
والإنصاف أنَّ المودودي هنا أقرَّ بوجود رواية في صحيح مسلم، كما أن ما ذكر لم يجعله ينكر ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه)، لأنَّه بعد ذلك بصفحتين قال:
غير أنَّ من الصعب على كل حال، القول بأن الروايات لا حقيقة لها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧) أبو الأعلى المودودي - البيانات: ص١١٤، البيان الثالث.
↑صفحة ١٩↑
أصلاً، فإننا إذا صرفنا النظر عما أدخل فيه الناس من تلقاء أنفسهم، فإنها تحمل حقيقة أساسية هي القدر المشترك فيها، وهي: أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخبر أنه سيظهر في آخر الزمان زعيم عامل بالسنة يملأ الأرض عدلاً، ويمحو عن وجهها أسباب الظلم والعدوان، ويعلي فيها كلمة الإسلام، ويعمم الرفاه في خلق الله(٨).
الشبهة الأولى: عدم ذكر روايات المهدي (عجَّل الله فرجه) في الصحيحين:
أي شبهة (دلالة عدم نقل البخاري رواية وعدم ذكر مسلم لرواية صريحة في المهدي) على (عدم صحة الروايات سنداً) والتي أشار إليها جملة من الباحثين، كأحمد أمين المصري الذي قال في كتابه المهدي والمهدوية: ومما يشهد بالفخار للبخاري ومسلم أنهما لم تتسرب إليهما هذه الأحاديث (أي أحاديث المهدي) وإن تسربت إلى غيرهما من الكتب التي لم تبلغ صحتهما(٩).
وقال الشيخ محمد رشيد رضا: ولذلك لم يعتد الشيخان (البخاري ومسلم) بشيء من رواياتها (روايات المهدي) في صحيحيهما(١٠).
وفي رسالة (لا مهدي يُنتظر بعد الرسول خير البشر)، قال الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود: إن هذه الأحاديث لم يأخذها البخاري ومسلم ولم يدخلاها في كتبهما مع رواجها في زمنهما، وما ذاك إلَّا لعدم ثباتها عندهما(١١).
وقال: كما تحاشى عنها (أي أحاديث المهدي) البخاري ومسلم والنسائي والدارقطني والدارمي، فلم يذكروها في كتبهم المعتمدة وما ذاك إلَّا لعلمهم بضعفها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨) نفس المصدر: ص١١٦.
(٩) المهدي والمهدوية: ص٤١.
(١٠) تفسير المنار: ج٩، ص٤٩٩.
(١١) لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر: ص٦، ٨، ٢٦، ٣١، ٣٩.
↑صفحة ٢٠↑
رد شبهة دلالة (عدم نقل البخاري ومسلم) على ضعف روايات المهدي:
١ - ما ذُكر من أن البخاري لم ينقل ذلك في صحيحه وأن مسلماً قد نقل رواية واحدة، غير صحيح.
ففي الحديث رقم ٣٣٧٦، ج٣، ص٧٢، روى البخاري: عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؟
وهي صحيحة السند على موازينهم، ففي سندها ابن بكير يحيى بن عبد الله، وهو ثقة أخرج له الشيخان، والليث بن سعد الذي قيل فيه: إنه ثقة ثبت فقيه، ثم يونس بن زيد الثقة الثبت الذي أخرج له الستة، ثم ابن شهاب محمد بن مسلم الزهري الذي قيل فيه: فقيه حافظ متفق على جلالته ومكانته، ثم نافع مولى أبي قتادة الأنصاري وهو ثقة أخرج له أصحاب الصحاح الستة، ثم أبو هريرة وهو عند القوم صاحب المنزلة الكبيرة.
نعم، لم يصرح البخاري أن المراد من إمامكم في الحديث هو المهدي، لكن قد أجمع شراح الحديث أن المقصود هو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان.
وورد في صحيح مسلم أكثر من رواية:
الأولى: ج٤، ص٢٢٣٤، ح٢٩١٣، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً لا يعده عدداً.
ورجال سنده: حرملة بن يحيى (ثقة أخرج له مسلم) ثم ابن وهب (ثقة حافظ عابد أخرج له الستة)، ثم يونس بن يزيد، ثم ابن شهاب الزهري، عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري، وقد نقلنا وثاقة الثلاثة في تقييم رواية البخاري ثم أبو هريرة، فالرواية صحيحة على مبنى القوم.
وقد ذكرت الروايات أن الذي يحثي المال هو المهدي (عجَّل الله فرجه).
↑صفحة ٢١↑
الثانية: ج١، ص١٣٧، ح١٥٦، عن جابر بن عبد الله، قال: سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة - قال -: فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله لهذه الأمة.
وسند الرواية:
زهير بن حرب (ثقة ثبت أخرج له الشيخان)، عبد الصمد بن عبد الوارث (ثقة أخرج له الشيخان) عن عبد الوارث بن سعيد (ثقة أخرج له الستة) عن داود بن أبي هند (ثقة ثقة حافظ) عن أبي نضرة (ثقة) عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله، وهما صحابيان جليلان.
والرواية الثالثة: ما رواه مسلم عن نصر بن علي الجهضمي (ثقة ثبت أخرج له الستة) عن بشر بن المفضل (ثقة ثبت عابد أخرج له الستة) حدثنا علي بن حجر السعدي (ثقة ثبت أخرج له الشيخان) حدثنا إسماعيل بن عليه (ثقة حافظ أخرج له الستة) كلاهما عن سعيد بن زيد (ثقة أخرج له الستة) عن أبي نضرة (ثقة) عن أبي سعيد الخدري، فالرواية صحيحة على مبنى القوم.
ومتنها: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من خلفائكم خليفة يحثو المال حثواً لا يعده عداً»(١٢).
وقد ذكر المهدي (عجَّل الله فرجه) بالوصف لا بالاسم.
والرواية الرابعة: ما رواه بسنده عن عبيد الله بن القبطية، عن أم سلمة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يعوذ عائذ بالبيت، فيُبعث إليه بعثٌ فإذا كانوا ببيداء من الأرض خُسف بهم(١٣).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢) صحيح مسلم ٨: ١٨٥.
(١٣) صحيح مسلم: ج٨، ص٦٦١، باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت، المكتبة الإسلامية: ج٤، ص٢٢٠٩.
↑صفحة ٢٢↑
والعائذ هو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وفق مرويات القوم في سنن أبي داود(١٤)، وابن أبي شيبة في الفتن(١٥) ومسند أحمد بن حنبل(١٦) وكنز العمال(١٧) ومستدرك الحاكم(١٨) وغيرها من المصادر.
٢ - إنَّ هذا الإشكال مبني على أن كلاً من مسلم والبخاري قد بنيا على ذكر كل حديث صحيح في زمانهما، وهذا أمر غير صحيح لاعتبارات عدة:
أ - أنَّهما صرَّحا بعدم استيعابهما لكل الأحاديث الصحيحة، فقد نقل عن البخاري قوله: وقد تركت من الصحاح لحال الطول(١٩).
وروى الإسماعيلي عنه أنَّه قال: وما تركت من الصحيح أكثر(٢٠).
ونقُل عنه أنَّه قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، وما نقله في كتابه سبعة آلاف ومائتان وسبعون حديثاً بالأحاديث المتكررة(٢١).
واشتهر عن مسلم أنَّه قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هنا، إنَّما وضعت ما أجمعوا عليه.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: فإنهما (البخاري ومسلم) لم يلتزما استيعاب الصحيح، بل صحيح عنهما تصريحهما بأنَّهما لم يستوعباه، وإنَّما قصدا جمع جمل من الصحيح...(٢٢).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤) ح٤٢٨٦.
(١٥) ح١٩٠٧٠.
(١٦) ح٢٦٧٣١، ج٦، ص٣١٦.
(١٧) ح٣٨٦٩٨.
(١٨) ح٨٥٨٦.
(١٩) مقدمة صحيح البخاري: ج١، ص٢٢ وعلى بعض طبعاته: ص٢٠.
(٢٠) ابن حجر مقدمة فتح الباري: ص٧.
(٢١) ابن الصلاح علوم الحديث: ص٢٠.
(٢٢) صحيح مسلم بشرح النووي: ج١، ص٣٢.
↑صفحة ٢٣↑
وقال الحاكم النيسابوري: صنَّفا في صحيح الأخبار كتابين مهذبين انتشر ذكرهما في الأقطار ولم يحكما ولا واحد منهما أنَّه لم يصح من الحديث غير ما أخرجه(٢٣).
ب - وجود المستدركات، وأهمها مستدرك الحاكم النيسابوري الذي أودع فيه أحاديث صحيحة على شرط الشيخين أو أحدهما.
وقد استعرضنا في مواد من البحث جملة من الروايات في موضوعنا والتي توفرت على شرائط الشيخين ولم ينقلاها.
فإذا كان البخاري ومسلم يصرحان بأنهما لم يستجمعا كل الروايات الصحيحة، بل يصرّح البخاري بأن ما ضمنه كتابه (٧٢٧٥) قد اختاره من مائة ألف من الصحاح التي حفظها، فهذا يعني أن ما دوّنه من الصحاح ما نسبته واحد إلى (١٣.٧٤٥٧) تقريباً، فما تركه من الصحاح يقرب من ثلاثة عشر ضعفاً مما ذكره، ويأتي بعض متتبعي علمائهم ويجد مجموعة روايات في موضوع واحد صحيحة على شرط الشيخين، فلماذا لا نقبل هذه الروايات؟
وكيف يسوغ لنا التشكيك فيها أو تضعيفها اعتماداً على عدم ذكرها في الصحيحين؟
ج - وجود روايات صحيحة في غيرهما، وإن لم يتعرض لها من استدرك.
٣ - هناك شواهد على أن نسخ الصحيحين المتداولة قد جرى حذف بعض رواياتها مما يرتبط بموضوع البحث، مثل حديث المهدي حق، وهو من ولد فاطمة.
وقد نقله عن صحيح مسلم وابن حجر الهيثمي الذي قال في الصواعق المحرمة ب١١ الفصل الأول، ص١٦٣، بعد ذكر الحديث (المهدي من عترتي من ولد فاطمة): أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وآخرون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣) المستدرك - المقدمة: ج١، ص٤١.
↑صفحة ٢٤↑
وجاء في كنز العمال: أخرجه داود ومسلم عن أم سلمة: المهدي من عترتي من ولد فاطمة(٢٤).
وقال الصبان عنه: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وآخرون(٢٥).
٤ - من أين لنا الجزم بصحة كل ما أسس له الشيخان لو أنَّهما أسسا أنَّ ما لم يذكر في كتابيهما فهو ضعيف، أن هذه دعوى دون إثباتها خرط القتاد، بل التتبع إذا وافق الدعوى فإنَّه يكون شاهداً عليها لا دليلاً لها، والتتبع أثبت خلاف ذلك، ولذا كتبت المستدركات.
على أنَّ غير المقبولات - بل غير المعقولات - تملأ الكتابين، كالتجسيم والنزول - نزول الله جل شأنه - إلى الدنيا كل ليلة(٢٦).
وغير ذلك.
كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معروفاً عند قريش بأنه الصادق الأمين، لكن ذلك لم يستدع أن تصدق الناس بكل ما يقول، ولذلك كان حقاً لهم أن يطالبوه بآية ودليل على ما يقول، وهكذا كان حال الأنبياء (عليهم السلام)، فصارت الآيات والمعجزات شاهد الحق على ما يقوله الأنبياء (عليهم السلام)، ومتمم الحجة لهم على أقوامهم.
ولم يحصل أن يرسل رسول أو يبعث نبي إلى قومه بدون أن يقترن ذلك بمعجزة تقطع منابت الشك في نفوس الناس الذين يطلبون الحق، ولا يدَّعي منتسب للدين أن المعجزة لم تكن ضرورية في التصديق وإتمام الحجة على الناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤) ج١٤، ص٢٦٤، ح٣٨٦٦٢.
(٢٥) إسعاف الراغبين: ٠١٣١/١.
(٢٦) قيل بتواتر هذه الروايات في الصحيحين وغيرهما وفي صحيح البخاري: ١٠٢٠.
↑صفحة ٢٥↑
فكيف يقبل دعوى مدَّعٍ (لو ادَّعى) أنَّ كل خبر يخبر به فهو متوفر على شرائط الصحة، وأن كل ما تركه فهو فاقد لبعضها؟
هذا والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخبر عن الغيب بلا واسطة، فاحتمال المخالفة للواقع لا منشأ له إلَّا خطأ الحس أو تعمد الخطأ، وهما أمران يمكن بسهولة إحراز عدمهما، والبخاري يصحح الأخبار عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالوسائط المتعددة التي تتصل ببعضها إلى أكثر من قرنين من الزمان، ومن جزئيات موضوع صحة استناد المعرفة بأحوال الرواة، وجيل الصحابة الأول فقط قد تجاوز عددهم مائة ألف، فضلاً عن الطبقات اللاحقة إلى أكثر من مائتي عام.
وأحوال الرجال ليست بالأمر الذي يمكن الاتفاق عليه بسهولة، لأن الوثاقة والصدق والأمانة والعدالة ليست من المدركات الحسية، بل تُعرف بلوازمها وآثارها، ومن هنا كثيراً ما وقع الاختلاف في وثاقة رجل، وكتب أحوال الرجال تعجّ بالرواة الذين اختُلف في وثاقتهم.
فأية فضيلة نسبها القوم للرجلين حتَّى استغنيا في دعواهما عن شواهد الحق واتّبعتهم أجيال المسلمين بعلمائهم وعوامهم، ولم يستغن الأنبياء عن ذلك؟
أتعرف أن من مستندات الوثاقة وشواهدها عندهم أن يكون الرجل ذا صحبة للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وتتحقُّق الصحبة عند البخاري للمسلم المصدق بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمجرد رؤيته، والتاريخ يحدثنا ما فعله الصحابة، ألم يُقتل مِن حرب الصحابة مع بعضهم في الجمل (خمسة وعشرون ألفاً) على بعض النقول التاريخية؟ ألم يرتد الكثير ممن رأى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لتبدأ حروب الردة؟ ألم تكن المدينة وما حولها تعجّ بالمنافقين، والمنافق في الدرك الأسفل من النار؟ ألم يناد بعض المخصوصين من الصحابة ومن يوصف بخال المؤمنين وكاتب الوحي بأن الذمة قد برئت ممن يروي فضيلة لأبي تراب؟ ألم يقف أمام الملأ ليقول: إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم.
↑صفحة ٢٦↑
ألم يتردد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تبليغ أمر الولاية حذراً من تكذيب صحابته! حتَّى أُلزِم بالبيان وضمنت له السماء دفع ضررهم؟
﴿يا أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ﴾ (المائدة: ٦٧).
أم يقولون: إنه كان يخشى من الكفار؟
ألم يرفض بعض هؤلاء الصحابة إبدال نخلة له في بستان أنصاري بالجنة، والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - الذي هو أولى به من نفسه - يدعوه للتخلي عنها بل يضمن له الجنة إن تخلى عنها؟
أليس أبو سفيان قد رأى النبي وقد أسلم، ونقل عنه البخاري حواره مع ملك الروم، وأبو سفيان هذا الذي يقول لبني أمية عندما ولي عثمان: تلاقفوها يا بني أمية، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار؟
لا نريد أن نكشف سوءات القوم، لكننا لا نريد أن نُستَغفل تحت عنوان صحابة النبي، ومن نقلوا لنا القرآن، وأن الطعن في أحدهم يراد به إبطال القرآن والإسلام، كما يقول أبو زرعة وغيره، على أن سوءات القوم لا تحتاج إلى مهارة وبذل جهد للوقوف عليها، فكتب المبجِّلين لهم المعظِّمين لأمرهم مليئة بالمفردات المخزية.
فإذا كان هذا أساس الحديث ومنطلقه، فكيف نقبل بمصحح الأخبار الصادرة من أي منهم؟
قلة ما رواه البخاري ومسلم عن علي (عليه السلام):
أجمعت الأُمَّة على علم علي (عليه السلام) حتَّى قال أعلامهم: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن، لولا علي لهلك فلان.
↑صفحة ٢٧↑
ونقل جملة من محدثيهم عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حقه (عليه السلام): «أنا مدينة العلم وعلي بابها، ومن أراد المدينة فليأت الباب»(٢٧).
والخطيب في تاريخه ٤/٣٤٨، ٧/١٧٢، و١١/٤٨-٤٩ بطرق مختلفة، وابن حجر في تهذيب التهذيب ٧/٣٣٧، وابن الأثير في أسد الغابة ٤/٢٣، والمتقي في كنز العمال ح٣٢٩٧٨ و٣٢٩٧٩ و٣٦٤٦٣، وابن عبد البر في الاستيعاب...، وذكر في الغدير من مصادره ١٤٣ مصدراً، كما ذكر كلمات الأعلام المصرحين بصحة الحديث.
ونقلوا عنه (عليه السلام) قوله: «علمني رسول ألف باب كل باب يفتح ألف باب»(٢٨).
ونحوه ما رواه الفخر في تفسير ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفى﴾ (البقرة: ١٣٢؛ آل عمران: ٣٣)(٢٩)، وقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أعلم الناس من بعدي علي بن أبي طالب»(٣٠).
وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «علي باب علمي ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي، حبه إيمان وبغضه نفاق والنظر إليه رأفة»(٣١).
وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار».
وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «علي مع القرآن والقرآن معه لن يفترقا (لن يتفرَّقا) حتَّى يردا عليَّ الحوض».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧) أخرجه الحاكم في المستدرك: ٣/ ١٢٦-١٢٧.
(٢٨) أخرجه أبو نعيم والإسماعيلي في معجمه فتح الملك العلي ص١٩، كنز العمال ٦/٣٩٢.
(٢٩) نظم درر السمطين ١١٣، فرائد السمطين ص٨٦.
(٣٠) عن سلمان كنز العمال ٣٢٩٧٧.
(٣١) كنز العمال ١٢/ ٢١٢ و٦/١٥٦، القول الجلي ح٣٨ ونحوه ما روي في كنوز الحقائق ص١٨٨ وحلية الأولياء ١/٦٣.
↑صفحة ٢٨↑
وغير ذلك كثير، ولأجل هذه كان ابن عباس يقول: والله لقد أعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وأيم الله، لقد شارككم في العشر العاشر(٣٢).
وكان يقول: ما علمي وعلم أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في علم علي إلَّا كقطرة من سبعة أبحر(٣٣).
في ينابيع المودة عن أبي الحسن بن سعيد:
يا أهل بيت المصطفى عجباً لمن * * * يأبى حديثكم من الأقوام
والله قد أثنى عليكم قبلها * * * بهداكم شدت عرى الإسلام(٣٤)
وحتَّى قال معاوية حين بلغه قتل علي: ذهب الفقه والعلم بموت علي بن أبي طالب(٣٥).
وقيل لعلي: مالك أكثر أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حديثاً؟ فقال: إني كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكت ابتدأني(٣٦).
ويروي القوم على ما ذكره ابن حزم في مسند بقي بن مَخْلَد(٣٧) عن أبي هريرة (٥٣٧٤) حديثاً، روى البخاري منها (٤٤٦)، هذا وأبو هريرة مع تأخر إسلامه وإدراكه من بقية عمر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة وتسعة أشهر.
وعلي أول من أسلم وتربى في حجر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعاش تحت كنفه قبل البعثة وظل معه حتَّى انتقل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى جوار ربه لم يفارقه في سفر أو حضر ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢) الاستيعاب وأسد الغابة في ترجمته، فتح الملك العلي: ص٣٦؛ ذخائر العقبى: ص٧٨.
(٣٣) الشرف المؤبد: ص٦٤.
(٣٤) ينابيع المودة: ٣/٤، ب٦٢.
(٣٥) الشرف المؤبد: ص٦٥.
(٣٦) الطبقات الكبرى: ٢/٣٣٨، تاريخ الخلفاء: ص١١٥، كنز العمال: ٦/٣٩٦.
(٣٧) قيل إنَّه من عيون المصنفات القديمة، روى فيه عن (١٣٠٠) صحابي ونيف ورتَّب حديث كل صحابي على أبواب الفقه، فهو مسند ومصنف، وهو صاحب تفسير أيضاً.
↑صفحة ٢٩↑
في سلم أو حرب إلَّا في تبوك حيث استخلفه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على المدينة، وهو زوج ابنته وصنوه وابن عمه، عاش معه ثلث قرن تتلقف إذنه ما يقول وتعي وتفهم ما عنى.
وعَبَدَ الله قبل أن يعبده أحد من الأمة سبع سنين(٣٨).
ولم يرو مسلم والبخاري من كل ذلك إلَّا عشرين حديثاً اتفقا عليهما، وانفرد مسلم بـ(١٥ رواية) والبخاري بقليل.
يفعلون ذلك وبين أيديهم علم علي من جهة، وبيانات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووصاياه من جهة أخرى، التي أرغمت قوماً منهم على الإقرار بفضله، ففي حديث الثقلين يقول التفتازاني في شرح المقاصد:
ألا ترى أنه (عليه الصلاة والسلام) قد قرنهم بكتاب الله في كون التمسك بهما منقذاً عن الضلال، فكما لا معنى للتمسك بالكتاب دون الأخذ بما فيه من العلم والهداية، فكذا في العترة(٣٩).
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي:
وقد بيَّن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عترته من هي لمّا قال: «إني تارك فيكم الثقلين»، فقال: «عترتي أهل بيتي»، وبيَّن في مقام آخر من أهل بيته حين طرح عليهم الكساء وقال حين نزلت ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ﴾ (الأحزاب: ٣٣): «اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس»(٤٠).
وقال ابن حجر: ثم أحق من يتمسك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) لما قدمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته، ومن ثم قال أبو بكر: علي عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أي الذين حث على التمسك بهم، فخصّه لما قلنا، وكذلك خصّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما مرّ يوم غدير(٤١).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٨) شرح نهج البلاغة: ١/٥.
(٣٩) عبقات الأنوار: ٢م، ١٢/٦.
(٤٠) شرح نهج البلاغة: ٢/١٣٠.
(٤١) الصواعق المحرقة: ص١٤٩.
↑صفحة ٣٠↑
هل تعلمون كم هي الروايات التي رووها عن عائشة؟
عائشة زوجة للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، تزوجها وهي صبية(٤٢) في السنة الثانية للهجرة وشاركتها في الزوجية نساء، كان النبي خلال مدة حياته معها زعيماً لأمة يرجع الناس إليه في كل شيء، يؤسس اعتقادها، ويعلم القرآن، وينمّي الأخلاقُ ويقوّم سلوك الأُمة، وينظِّم علاقاتها مع الأُمم، ويجيّش الجيوش، ويشارك في الحروب، ولكل امرأة من نسائه ليلة خاصة بها، وهذا يعني أنَّه لم يكن لديه الوقت الكثير للحديث مع كل زوجة، وعادة ما يغلب على أحاديث الزوجين شؤون الدار وشكوى الضرائر وكيدهن، ولا يعطى للعلم من الوقت إلَّا القليل، فهل كان الوقت الذي أعطي لتعليم عائشة أكثر مما أخذ علي (عليه السلام)، أم كان وعيها لما يحدّثها النبي أكبر، أم كانت محل الوثوق الذي يسوغ الاعتماد على حديثها؟ وآية التحريم تصدح بالحق فيما يرجع إلى اثنتين من نسائه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ﴾ (التحريم: ٣-٤).
أليس غريباً أن يكون الحديث بضمير المثنى ونساؤه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كثر؟
ثم أليس غريباً أن يضرب للذين آمنوا مثلاً في امرأتين وللذين كفروا مثلاً في امرأتين زوجاهما نبيان؟ ألم يكن نمرود وفرعون وإبليس و... أحرى بأن يضرب المثل بهم دون نساء الأنبياء؟
ثم ألم يكن الأنسب أن يضرب الأنبياء مثلاً للذين آمنوا لا نساء مستقيمات؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٢) كان عمرها تسع سنوات على ما نسب إلى مسلم والبخاري.
↑صفحة ٣١↑
نعم، إنَّما كان الاختصاص بالنساء ولكلٍ ضُرِبَ مَثلان من النساء، لأنَّ الحديث عن نساء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبالخصوص اثنتين منهما، والروايات تحدثنا أنَّ إحداهما عائشة.
ثم ألا يكفي خروجها تجيّش الجيوش على إمام زمانها وتشارك في ساحة المعركة، تُقطَع أيدي بني ظبة دفاعاً عن خطام جملها، وتتسبب في مقتل (٢٥ ألفاً) من المسلمين؟
ومع ذلك يروي البخاري ومسلم عنها أكثر مما يروون عن علي (عليه السلام)؟!
هل بعد ما ذكر من اعتماد على نقل أو عدم نقل أحدهما لأمر؟
مما أخرجه مسلم وأحمد وغيره من طرق عن عائشة قالت:
قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مرضه الذي مات فيه: ادعي لي أباك وأخاك حتَّى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنَّى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلَّا أبا بكر(٤٣).
هلا قال قائل كقول فاروقهم! إن الرجل ليهجر أو إنَّه قد غلبه الوجع أو حسبنا كتاب الله؟ وأين الاستناد إلى إجماع الأُمَّة (المفترى) على الأول إذا كان النبي قد أوصى له بشهادة أم المؤمنين؟ وهل كان الاختيار لسابقة في دين أو لباع في علم أو لموقف في ساحة وغى، ويداه صفرات من أي شيء من ذلك؟
إنَّ شهادة المرأة لا تقبل منفردة في أي شيء، وتقبل مع نساء أخريات فقط فيما يعسر على الرجال الاطلاع عليه كبكارة النساء، وفي الأمور المالية تقبل منضمة إلى امرأة أخرى ورجل ولو كان المبلغ درهماً، فكيف تقبل في أمر خلافة المسلمين؟ قاتل الله الوضاعين.
وأين هذا مما صححه القوم من أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مات ولم يستخلف؟ وأين هذا مما صححوه من أن أبا بكر قال في مرضه الذي توفي فيه: وددت أني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٣) صحيح مسلم: ٥/١٠، ح١١، كتاب فضائل الصحابة.
↑صفحة ٣٢↑
سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمن هذا الأمر، فلا ينازعه أحد، ووددت أني سألته هل للأنصار في هذا نصيب؟(٤٤).
وهذا يعني أنه لم يسمع، أو لم يرتب أثراً على ما نسب إلى عائشة.
بل حتَّى عائشة قد صححوا عنها أنها قالت: لو كان رسول الله مستخلفاً لاستخلف أبا بكر وعمر(٤٥).
مثل هذه الرواية يرويها مسلم في صحيحه، ويترك روايات المهدي الشائعة في كتب قومه، هل ذلك أمر طبيعي؟
وقد عدَّ الذهبي على ما نقل عنه أحاديث عائشة بـ(٢٢١٠) أحاديث منها (١٧٤) حديثاً متَّفقاً عليه وانفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثاً ومسلم بتسعة وستين حديثاً(٤٦)، وقال علماء السُنَّة إنَّ روايات البخاري عن علي (عليه السلام) من غير المكرر (٣٤ رواية) وفي صحيح مسلم (٣٨ رواية، هل يوجد بحال للمقارنة بين ما حمله علي (عليه السلام) ووعاه من علم وبين ما اطَّلعت عليه عائشة؟ لينقل عنها أكثر مما نقل عنه (عليه السلام)؟
ولا أعهد رواية عن الحسن أو الحسين (عليهما السلام) في البخاري.
أمّا السجاد (عليه السلام) فقد روى البخاري عنه ثمانية أحاديث، بينما روى لعروة بن الزبير (٦١٢ حديثاً)، وروى مسلم للسجاد (عليه السلام) ستة أحاديث ولعروة (٣٧٩ حديثاً)، وعروة هذا كان مبغضاً لعلي (عليه السلام).
(وقد تظاهرت الرواية عن عروة أنَّه كان يأخذه الروع عند ذكر علي (عليه السلام) فيسبّه ويضرب بإحدى يديه على الأخرى ويقول: وما يعني أنَّه لم يخالف إلى ما نهي عنه وقد أراق من دماء المسلمين ما أراق؟)(٤٧).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٤) تاريخ الطبري: ٤/٥٣ [٣/٤٣١].
(٤٥) صحيح مسلم: ٥/٩، ح٩، فضائل الصحابة.
(٤٦) وفي دراسة للدكتور عبد المنعم الحنفي يقول في مقدمة (موسوعة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر): وتتضمن المجموعة نحو (٥٦٣٦ رواية).
(٤٧) التستري - قاموس الرجال: ج٦، ص٣٠٠، الطبعة القديمة طهران.
↑صفحة ٣٣↑
وقد صحَّ عند القوم أنَّه لا يحب علياً إلَّا مؤمن ولا يبغضه إلَّا منافق، هلّا منع ذلك من النقل عنه؟
بل هلّا منع من الإكثار من النقل عنه؟ هلّا ساووا النقل عن السجاد بالنقل عنه؟
فهو في ذلك مثل عكرمة مولى ابن عباس الذي قيل: إنَّ البخاري قد روى عنه مائة رواية، وقد أحصى بعض من تتبع (٦٧ رواية) له في البخاري، وقد ذكر العلامة شرف الدين في كتابه (الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء):
كان عكرمة ينادي في الأسواق تحاملاً على أصحاب الكساء، ولا عجب فإنَّ عكرمة من الدعاة إلى عداوة علي والسعاة في تضليل الناس عنه بكل طريق... وعن خالد بن عمران قال: كنا في المغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم، فقال: وددتُ أن بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً، لبنائه الكفر من عدا الخوارج من أهل القبلة، وعن يعقوب الحضرمي عن جده، قال: وقف عكرمة على باب المسجد فقال: ما فيه إلَّا كافر...(٤٨).
ومثله يروي البخاري عنه بمقدار أكثر مما روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو بحر العلم، والسيدة الزهراء (عليها السلام) (لها رواية واحدة)، والحسن والحسين (عليهما السلام) (وقد قيل: إنه لا توجد رواية واحدة في البخاري عنهما)، أفلا يؤشر ذلك على شيء من أجندات صاحب أصح كتاب بعد القرآن عند القوم؟
أو مثل الزهراء (عليها السلام) التي وعت علماً جماً يُترك النقل عنها ويُنقل عن عائشة هذا الكم من الروايات، ولا أدل على علمها من كلامها في خطبتها، وقد اخترت مقطعين من خطبتها لأذكّر القاري بتفردها في فهمها (عليها السلام) تقول في وصف الله تعالى:
«وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٨) الكلمة الغراء: ص١٧.
↑صفحة ٣٤↑
تأويلها وضمن القلوب موصولها وأنار في الفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته ومن الأوهام كيفيته ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كونها بقدرته وذرأها بمشيته من غير حاجة منه إلى تكوينها ولا فائدة له في تصويرها إلَّا تثبيتاً لحكمته وتنبيهاً على طاعته وإظهاراً لقدرته وتعبداً لبريته وإعزازاً لدعوته ثم جعل الثواب على طاعته ووضع العقاب على معصيته ذيادة لعباده عن نقمته وحياشاً منه إلى جنته».
وفي كلامها عن أبيها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثم عن الأنصار تقول:
«فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة مائلاً عن مدرجة المشركين ضارباً ثبجهم آخذاً بأكظامهم، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام وينكت الهام حتَّى انهزم الجمع وولّوا الدبر، حتَّى تفرى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن لحضه ونطق زعيم الدين وفرست شقاشق الشياطين وطاح وشيظ النفاق وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهمتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماس وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام، تشربون الطرق وتقتاتون الوَرَق أذلة خاسئين ﴿تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾ [الأنفال: ٢٦] من حولكم فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد اللتيا والتي وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ﴿كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ﴾ [المائدة: ٦٤] أو نجم للشيطان قرن وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في سهواتها فلا ينكفي حتَّى يطأ صماخها بأخمصة ويُخمد لهبها بسيفه.
يا معاشر الفتية وأعضاد الملة وأنصار الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي والسِّنةُ عن ظلامتي؟
أما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبي يقول: المرء يحفظ في ولده؟ سرعان ما أحدثتم
↑صفحة ٣٥↑
وعجلان ذا إهالة ولكم طاقة بما أحاول وقوة على ما أطلب وأزاول! أتقولون مات محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ فخطب جليل استوسع وهيه، واستنهر فتقه وانفتق رتقه واظلمت الأرض لغيبته وكسفت النجوم لمصيبته وأكْدَت الآمال وخشعت الجبال وأضيع الحريم وأزيلت الحرمة عند مماته فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم هتافاً وصراخاً وتلاوة وألحاناً ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله حكم فصل وقضاء حتم ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ(٤٩) ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُـرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٤].
ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم والغذرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس ونفثة الغيظ وخور القنا وبثة الصدور وتقدمة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها دَبِرةَ الظهر نَقِبة الخف باقية العار موسومة بغضب الله وشنار الأبد موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧] وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فـ﴿اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ [هود: ١٢١-١٢٢]».
وإن تعجب فعجب ترك الأخذ منها (صلوات الله عليها) وهي هي هذا منطقها ومن ورائه فهمها وإدراكها، لم تخْفَ عليهم منزلتها، ولا غابت عنهم حيثيتها، حاضرٌ فيهم شرف نسبها ونجابة أصلها، وذكْرُ القرآن لفضها في آية التطهير والمباهلة وسورة الإنسان، ليصفع من تنكّر لها ويذكّر من غلب عليه نسيان أمرها، ويخلّد للدنيا بتوارد الأيام وتتابع السنين أن لا امرأة - بل ولا رجل - يمكن أن يقاس بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٩) في المصدر (أفأين).
↑صفحة ٣٦↑
ومع ذلك لا يروي عنها القوم إلَّا رواية واحدة، هل لذلك تفسير غير أن صدور القوم قد أوغرت على بيتها وحسد الداني لعلو بعلها.
مَن مِن المهاجرين والأنصار بل والتابعين يمكنه أن يتحدث بمنطقها ويعي مثل وعيها ليقدم عليها في النقل لشريعة أبيها؟
وإنما نقلت مقداراً كبيراً من كلامها في خطبة واحدة ليتبين للقاري أي فهم وعاه صدرها وأي علم حواه قلبها وأية روح حملت جسدها قدست من نفس زكية وروح طاهرة.
وزياد بن أبيه من رجال البخاري في الرواية (١٦٢٦)، وزياد هذا كان يتتبع الشيعة تحت كل حجر ومدر فيقتلهم وكان يقتل على الاسم ويسمل العيون.
ومادام الحديث عن خارجي اعتمد البخاري نقله في عشرات الروايات، فقد قيل: إن البخاري يروي عن (١٢٠٠) من الخوارج.
كان عمران بن حطان رأس الخوارج صاحب الشعر المعروف في ابن ملجم المرادي:
يا ضربة من تقي ما أراد بها * * * إلَّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه * * * أوفى البرية عند الله ميزانا
جعله البخاري من رجاله وأخرج عنه.
* وإسحاق بن سويد العدوي البصري كان يحمل على علي بشكل شديد، وقال: لا أحب علياً، وهو من رجال صحاح البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي(٥٠).
* وحريز بن عثمان الذي كان يصلي في المسجد ولا يخرج منه حتَّى يلعن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٠) تهذيب التهذيب: ج١، ص٢٣٦.
↑صفحة ٣٧↑
علياً سبعين لعنة كل يوم، قال إسماعيل بن عياش: رافقت حريزاً من مصر إلى مكة، فجعل يسب علياً ويلعنه، وقال لي: هذا الذي يرويه الناس أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لعلي: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) حق، ولكن أخطأ السامع، قلت: فما هو؟ قال: إنما هو: أنت مني بمكان قارون من موسى، قلت: عمن ترويه؟ قال: سمعت الوليد بن عبد الملك يقوله على المنبر(٥١).
وقد احتج البخاري بحديثه وأبو داود والترمذي.
* وعبد الرحمن بن إبراهيم الشهير بدحيم الشامي القائل بأن من قال: إنَّ الفئة الباغية هم أهل الشام فهو ابن الفاعلة، يروي عنه البخاري وغيره وعرف بالثقة وأنه حجة(٥٢).
* ثم مروان بن الحكم كان من رجال البخاري ومروان طريد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومبغض علي (عليه السلام) وهو الذي رمى طلحة وهو في جيشه، وقد قال المصلح الحضرمي في العتب الجميل ص١٠١ بعد ما ذكر قليلاً من أعمال مروان: وأنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال فيه: «هو الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون».
* ثم سمرة بن جندب من رجال البخاري وربما مسح اسمه ووضع بدله فلاناً، وقصته في قضية (لا ضرر) معروفة، وقد رفض إبدال نخلة له بنخلة في الجنة، وقد روى الطبري في حوادث سنة (٥٠هـ) قال: عن محمد بن سليم، قال: سألت أنس بن سيرين، هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال: وهل يحصى من قتله سمرة بن جندب؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف، فقال له: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت(٥٣).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥١) تاريخ ابن عساكر: رقم ١٢٥٤، ج١٢، ص٣٣٦.
(٥٢) تهذيب التهذيب: ج٦، ص١٢٠.
(٥٣) الطبري: ج٥، ص٢٩٢.
↑صفحة ٣٨↑
ولنقف هنا، فقد تبين لمسترشد ما قيمة نقل البخاري ومسلم وما قيمة تركهما.
والتفاصيل هنا كثيرة تجعل الحسرة تتملكك على ما بنى عليه القوم من أن صحيح البخاري أصح كتاب بعد القرآن.
المبالغة في شخصية البخاري وحفظه للحديث:
جاء في سورة الأعلى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى﴾ (الأعلى: ٦).
وهي وعد منه تعالى لنبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يمكّنه من العلم بالقرآن وحفظه على ما أنزل بحيث يرتفع عنه النسيان فيقرؤه كما أنزل وهو الملاك في تبليغ الوحي كما أوحي إليه(٥٤).
وقد ذكر في مجمع البيان أن ابن عباس قال: كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا نزل عليه جبرائيل بالوحي يقرأه مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبرائيل (عليه السلام) من آخر الوحي حتَّى يتكلَّم هو بأوله، فلما نزلت هذه الآية لم ينس بعد ذلك شيئاً(٥٥).
فهاجس النسيان لم يفارق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتَّى أعلمه الله تعالى بأنه لا ينسى شيئاً من كتابه؛ لأنَّه تعالى شاء ذلك، وأن عدم نسيانه ليس شيئاً مستحيلاً في نفسه، بل مشيئة الله تعالى حكمت فيه أن لا تجري فيه سنة النسيان، وكأن هؤلاء يقولون: إن البخاري قد عبر على هذه السنة دون أن يخشى منها أن تأخذ شيئاً مما حفظ، ولذلك كان يحفظ الأحاديث ويكتبها في طريق رجوعه.
وفي الحديث رقم (٤٧١١) في صحيح البخاري: حدثنا يحيى بن قزعة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في شهر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٤) الميزان: ج٢٠، ص٢٦٦.
(٥٥) مجمع البيان: ج٥، مطبعة العرفان، ص٤٧٥.
↑صفحة ٣٩↑
رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتَّى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة.
وفي الصحيح عندهم عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وأنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلَّا حضر أجلي... الخبر.
روته السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)(٥٦).
وروته عائشة في البخاري برقم ٣٦٢٣، ٣٦٢٤، وفي صحيح مسلم ٢٤٥٠.
والذي كان يحصل وفق تفسير القوم أن جبرئيل كان يدارسه جميع ما نزل من القرآن ويراجعه معه، أليس ذلك لدفع احتمال الاشتباه والنسيان وفق السنن الكونية في الإنسان؟
فكيف ثبت للبخاري أنه يحفظ ثلاثمائة ألف حديثٍ بأسنادها ثم يكتبها في طريقه إلى بخارى؟
فهل احتاج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمدارسة القرآن مع جبريل أو سماعه منه كل عام مرة لئلا ينسى واستغنى البخاري عن ذلك في ثلاثمائة ألف حديث؟
هكذا هم القوم إذا أرادوا مدح شخص فضَّلوه على الأنبياء (عليهم السلام)، فالأنبياء يمكن أن يقعوا في المعاصي وكل الصحابة عدول لا يجوز الطعن في أحد منهم ولو رأى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مرة، والبخاري الذي كانت أحاديثه بقدرة قادر على رأس المائة ألف وأضعافها، إذ يقولون: إنه يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث ضعيف، وأنَّه انتقى أحاديثه من ستمائة ألف حديث، وكم ملفت ما ذكره بعض باحثيهم من أن الأيام تُنسي بعض الأحاديث فيفترض أن تنقص الأحاديث في الكتب التي دوّنت متأخراً، مع أن العكس هو الحاصل، فمالك الذي كتب موطأه متقدماً على غيره لأنَّه توفي عام (١٧٩هـ) حوى بحسب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٦) الألباني - صحيح الجامع: الصفحة أو الرقم ٢٠٥٤.
↑صفحة ٤٠↑
كلامه (١٠٠٠ حديث) والبيهقي (٤٥٨هـ) في السنن الكبرى جمع الآلاف، وهكذا تزداد الأحاديث بدل أن تنقص ويصدقون أنها صحيحة (على حد قوله).
من مبالغتهم في البخاري ومسلم أن الحاكم ذكر أنهما اشترطا في قبول الرواية أن يرويها عدلان عن عدلين، وردّه ابن الجوزي بقوله: ليس بصحيح فإنهما ما اشترطا هذا، وإنما ظَنَّه الحاكم وقدره في نفسه (ونحن نقول بل افتراه) وظنه غلط، وإنما قد يتفق مثل هذا، وقوله: تركا رواية من ليس له غير راوٍ واحد غلط أيضاً، فإنَّ البخاري ومسلماً قد أخرجا حديث المسيب بن حزن في وفاة أبي طالب، ولم يرو عن المسيب عن ابنه سعيد، وأخرج البخاري حديث قيس بن أبي حازم عن مِرداس الأسلمي يذهب الصالحون أولاً فأولاً وليس لمرداس راوٍ غير قيس...(٥٧).
واستمر ابن الجوزي في ذكر نقوض متعدِّدة على هذه الدعوى في كل من البخاري ومسلم.
إيراد على دلالة ترك نقل الحديث على ضعفه:
ثم إن من اللافت أن بعض الأحاديث قد انفرد بها البخاري (أي لم يذكرها مسلم).
وبعضها انفرد بها مسلم، فإذا كان ترك أحدهما ذا دلالة على خلل في الحديث تُعارِضُ نقل الناقل (لأنَّه لا ينقل إلَّا الصحيح) مع ترك التارك (لدعوى أن ترك النقل يدل على ضعف الحديث).
وبغض النظر عن ذلك كما يصح أن يترك أحدهما خبراً صحيحاً ويرويه الآخر فإنه يمكن أن يتركا معاً خبراً صحيحاً، فلا يكون ترك نقل الحديث منهما معاً دالاً على ضعف الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٧) الموضوعات من الأحاديث المرفوعات: ج١، ص١١-١٢، طبعة أضواء السلف (محقق).
↑صفحة ٤١↑
الشبهة الثانية: تضعيف ابن خلدون لروايات المهدي (عجَّل الله فرجه):
لقد تعرض ابن خلدون في مقدمته إلى روايات المهدي (عجَّل الله فرجه) وردَّ أكثرها وشكَّك في مؤداها، وقد تبعه على ذلك بعض المتأخرين عنه.
قال ابن خلدون:
اعلم أنَّ المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنَّه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت، يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله ويأتم بالمهدي في صلاته، ويحتجون في هذا الشأن بأحاديث خرجها الأئمة وتكلم فيها المنكرون لذلك، وربما عارضوها ببعض الأخبار... ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن وما للمنكرين فيها من المطاعن وما لهم في إنكارهم من المستند.
إنَّ جماعة من الأئمة خرجوا أحاديث المهدي منهم الترمذي وأبو داود والبزاز وابن ماجة والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل علي وابن عباس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري وأم حبيبة وأم سلمة وثوبان وقرة بن إياس وعلي الهلالي وعبد الله بن الحارث بن جَزْء، بأسانيد ربما يعرض لها المنكرون كما نذكره، إلَّا أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل، فإذا وجدنا طعناً في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي تطرق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها(٥٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٨) مقدمة ابن خلدون: طبعة لجنة البيان العربي، الطبعة الثانية (المحقق).
↑صفحة ٤٢↑
وفي آخر بحثه يقول:
فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلَّا القليل أو الأقل منه(٥٩).
لا يمكن الاستناد إلى ابن خلدون لتضعيف الروايات الواردة في المهدي (عجَّل الله فرجه) لوجوه:
الأول: عدم التخصص في نقد الأسانيد وتقييمها:
إنَّ متابعة سيرة الرجل وتاريخه يعطي الناظر أنه لم يكن متخصصاً في تقييم الأسانيد، إذ لم يتح له الاشتغال بهذا العلم لتحصيل قواعد الرد والقبول والجرح والتعديل للرواة، وليكون ذا مهارة في النقد الحديثي.
كانت ولادة ابن خلدون عام (٧٣٢هـ) ووفاته عام (٨٠٨هـ) وقد أنهى خمسةً وعشرين عاماً في الوظائف الديوانية من عمر (٢٠ إلى ٤٥) وفي العشرين الأولى كان في طور التعلم ثم تحول إلى التأليف وصفته الأولى في التخصص أنه مؤرخ.
في عمر العشرين استدعاه محمد بن تافراكين إلى البلاط الملكي لكتابة العلامة عن السلطان أبي إسحاق، ثم خرج مع ابن تافراكين لملاقاة صاحب قسنطينة الأمير أبي زيد، فالتقى الجيشان وهزم جيش السلطان، مما حدا بابن خلدون إلى السفر إلى المغرب، وطلب المساعدة من السلطان أبي عنان صاحب تلمسان، حيث رحّب به وأكرمه وقدّم له الحماية، ودعاه إلى مجالس العلم، وألزمه بشهود الصلاة معه، ثم إنه قد شغل في المغرب أكثر من منصب، ومنها خطة المظالم التي هي تولّي القضاء بين الناس.
وفي الأندلس كان قد عيّن حاجباً لدى السلطان بجاية بن أبي عبد الله، وابن خلدون قد عرف الحجابة في المغرب بالقول: (الاستقلال بالدولة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٩) مقدمة ابن خلدون: ص٩١٥، طبعة لجنة البيان العربي، الطبعة الثانية (المحقق).
↑صفحة ٤٣↑
والوساطة بين السلطان وبين أهل دولته) وهذا يعني أن الحجابة مانعة من ممارسة أي نشاط علمي يُكسب صاحبه جنبة تخصصية.
كما عُيّن حاجباً لدى صاحب قسنطينة بعد مقتل أمير بجاية، كما عيّنه سلطان المغرب عبد العزيز سفيراً في بلاد رياح، وعمل سفيراً للسلطان أبي حمو في منطقة الدوادة.
وفي مصر تولّى بعض المناصب منها القضاء للمالكية عام (٧٨٦هـ) من قبل الملك برقوق ثم أعيد تعيينه عام (٨٠١هـ) ثم عام (٨٠٣هـ) من قبل السلطان فرج، وفي المرة الرابعة عام (٨٠٤هـ) والخامسة عام (٨٠٧هـ) لكنها لم تستمر إلَّا أشهر توفي بعدها.
وهذا يعني أنَّه اشتغل بعد عمر العشرين إلى ٤٥ من عمره ثم في أواخر عمره لمدة ٢٤ عاماً في القضاء وهذا يعني أنه لم يتفرغ بشكل كامل بعد العشرين إلَّا عدَّة سنوات، وكل ذلك يؤثر على الجنبة التخصصية خصوصاً في العلوم التي تقتضي كثرة التتبع والبحث ليصل إلى التخصص، ومن أبرز تلك العلوم في ذلك علم الرجال.
وبالأخص مع أنَّه كان مشغولاً في فراغه من مناصب الدولة بكتابة التاريخ وتدوين بعض ما يرجع إلى علم الاجتماع.
وهذا التحليل يدعمه التتبع في الجانب التطبيقي للرجل.
الثاني: اعترافه بأن بعض الأخبار التي ذكرها صحيحة:
اعترف ابن خلدون بأن بعض الأخبار التي أوردها في المهدي صحيحة، في الوقت الذي أنكر وجود خبر صحيح فيه (عجَّل الله فرجه)، وهذا يدلك على التخبط الذي أوقع الرجل نفسه فيه.
فعند نقل حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا تقوم الساعة
↑صفحة ٤٤↑
حتَّى تملأ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً ثم يخرج من أهل بيتي من يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً وعدواناً»(٦٠).
* لم يردّ الخبر واكتفى بنقل تعليق الحاكم على الحديث (صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه).
كما نقل حديثاً ثانياً عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «يخرج في آخر أُمَّتي المهدي يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطى المال صحاحاً وتكثر الماشية وتعظُم الأُمَّة، يعيش سبعاً أو ثمانياً (يعني حججاً)».
ثم نقل تعليق الحاكم عليه (حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه - أي البخاري ومسلم -)(٦١).
نعم حاول التشكيك من خلال الإيراد على أحد رجال السند وهو سليمان بن عبيد إذ قال: لم يخرج له أحد من الستة لكن ذكره ابن حبان في الثقات ولم يرد أن أحداً تكلم فيه(٦٢).
وإن تعجب فعجب قوله في الطعن على رجل نصَّ على أنَّه من الثقات إنَّه لم يخرج له أحد من الستة.
وعن حديث علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال:
«لو لم يبق من الدهر إلَّا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً»(٦٣).
قال في نقد السند وقطن [فطر] بن خليفة وإن وثقه أحمد ويحيى بن القطان وابن معين والنسائي وغيرهم إلَّا أن العجلي قال: (حسن الحديث وفيه تشيع قليل)، وقال ابن معين: (ثقة شيعي) إلى آخر ما ذكره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٠) الحاكم - المستدرك: ج٢، ص٥٥٧، كتاب الفتن والملاحم.
(٦١) مقدمة ابن خلدون: ص٩٠٤، طبعة لجنة البيان العربي، الطبعة الثانية (المحقق).
(٦٢) مقدمة ابن خلدون: ص٩٠٤، طبعة لجنة البيان العربي، الطبعة الثانية (المحقق).
(٦٣) سنن أبي داود: ج٤، ص١٠٧؛ كتاب المهدي: ح٤٢٨٣.
↑صفحة ٤٥↑
وأعجب لتوهين راوٍ يبدأ بـ(فيه تشيع قليل) وأعجب من إسقاط كلمة ثقة في كلام العجلي التي نصها: (كوفي ثقة حسن الحديث وكان فيه تشيع قليل).
وقد ذكر بعض باحثي العامة(٦٤) أن الحديث صحيح على شرط الشيخين.
والراوي المذكور قد وثقه العديد من رجاليي العامة.
الثالث: عدم صحة بعض مستندات رد الرواية عنده:
ومما اعتمد عليه ابن خلدون في رد بعض الروايات الاختلاف في وثاقة راوٍ بناء على أن الجرح مقدم على التعديل وهي قاعدة ليست صحيحة على إطلاقها.
بعد أن ذكر ابن خلدون أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل، ثم تعرض لذكر بعض مفردات الجرح وتطرق ذلك (مفردات الجرح) إلى صحة الحديث، قال: ولا تقولن مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين، فإن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول والعمل بما فيهما، وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفع وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك، فقد نجد مجالاً للكلام في أسانيدها بما نقل عن أئمة الحديث في ذلك(٦٥).
ونحن نقول: إن معرفة الشيخين بالرجال ليست حسية لا تقبل الخطأ مع الوثاقة العالية والدقة!
بل إن كثيراً من مفرداتها اجتهادية تلقاها الشيخان من أفواه الرجال الذين إن أُحرزت وثاقتهم لم يُحرز عدم الخطأ منهم، ولا مجال للقول: إن كل رجل ذكر في صحيحيهما، قد وصلا إلى العلم الذي لا يخالف الواقع بوثاقته.
فعدد رجال الصحيحين على تعدد الطبقات هائل، إن تيسر للإنسان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٤) الغماري في إبراز الوهم: ص٤٩٠.
(٦٥) مقدمة ابن خلدون: ص٨٩٦-٨٩٧، طبعة لجنة البيان العربي، الطبعة الثانية (المحقق).
↑صفحة ٤٦↑
الاطلاع على كل ما ورد في كل واحد منهم لم يتيسر في كل واحد ما يوجب الجزم بالوثاقة.
فلابد من أن بعض توثيقاتهما قد جاء من طريق ظني.
وثبوت الحجية لطريق الظن لا يعني أنه لا يخطئ الواقع، فكل الحجج التعبدية يمكن أن تخالف الواقع، لأن ثبوت الحجية غير مشروط بقطعية الكشف.
فدعوى عدم تطرق الشك إلى رجال الصحيحين دعوى زائفة، خصوصاً مع كثرة النقوض عليها، وقد يكون الفاصل الزمني بين الشيخين وأحد رجال صحيحيهما أكثر من قرنين من الزمان.
إنَّ المستدِل على هذه الدعوى إنما استدل بالإجماع، فلابد أن يكون إجماع العلماء بعد الشيخين، أي إجماع علماء القرن الثالث الهجري وما بعده، وليس في هذا الإجماع أية حجية ولا له أي مستند.
وأمّا ما ذكره من أن المعروف عند أهل الحديث من أن الجرح مقدم على التعديل فليس مقبولاً على إطلاقه؛ إذ إن بعضاً قد جرح اعتماداً على المعتقد والمذهب، ولا ملازمة بين خطأ اختيار المذهب وسقوط الخبر منه عن الاعتماد.
خصوصاً وأنَّ كثيراً من الرؤى الاعتقادية لم تكن ثابتة، وإنَّما تغيَّرت وانكشف خلافها.
ويمكن أن ينكشف خطأ المستند في التضعيف كما كان علماء قم يضعّفون من يُكثر النقل عن الضعفاء ويسقطون نقله عن الاحتجاج ولو نقل عن ثقة.
نعم، لو كان التصحيح والتوثيق اعتماداً على أصل - كأصالة حمل فعل المسلم على الصحة -، أمكن تقديم الجرح على التعديل.
↑صفحة ٤٧↑
كما يقدّم الجرح باعتبار أنَّه ناتج من الاطلاع على ما ينافي الاعتماد على خبره، والتوثيق ناشئ من عدم الاطلاع على مثل هذه الجزئية.
الرابع: اعترافه بأنَّ جماعة من الأئمة خرَّجوا أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه):
اعترف ابن خلدون بأن [جماعة من الأئمة خرَّجوا أحاديث المهدي، منهم الترمذي وأبو داود والبزار وابن ماجه والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي](٦٦)، وقد تقدمت عبارته.
ولذا قال الغماري: فاتفاق هؤلاء الحفّاظ الكبار وغيرهم - كالإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحافظ ضياء الدين - لا يسمح مجالاً للنفي والإنكار، ولو حصل ذلك فهو تهوُّر عظيم(٦٧).
الخامس: بطلان ادعائه استيفاء أخبار المهدي (عجَّل الله فرجه):
إنَّ ادِّعاء الرجل أنه استوفى أخبار المهدي ليس صحيحاً، ولذلك ردّه الغماري بالقول: وها أنا مُورِدٌ من أخباره ما أُكمل به المائة من مرفوعات وموقوفات، دون المقطوعات، إذ لو تتبعتها - خصوصاً الوارد عن أهل البيت - لأتيت منها بعدد كبير وقدر غير يسير مما ينبغي أن يفرد بالتأليف، ولكن فيما سأذكره كفاية(٦٨).
وقد روى أحمد بن حنبل في مسنده جملة روايات صحيحة السند، إحداها عن علي (عليه السلام) والثانية عن عبد الله بن مسعود، وثلاثة عن أبي سعيد الخدري، جميع رواة هذه الروايات من الثقات عند القوم، وأحمد بن حنبل أحد الأئمة الأربعة للمذاهب المعروفة.
كما روى غيره بأسانيد صحيحة، كالحافظ عثمان بن أبي شيبة، ونعيم بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٦) مقدمة ابن خلدون: ص٣١١، ف٥٣، طبعة لجنة البيان العربي، الطبعة الثانية (المحقق).
(٦٧) إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون: ص٤٤٩.
(٦٨) الغماري إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون: ص٥٦٢.
↑صفحة ٤٨↑
حماد في روايات صحيحة عديدة، والصنعاني، وابن ماجة في سننه عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي (عليه السلام) وعن ثوبان وعن أُم سلمة وكلها صحيحة سنداً، وأبو داود في سننه عن علي (عليه السلام) وأخرى عن عبد الله بن مسعود وثالثة عن أم سلمة ورابعة عن أبي سعيد الخدري وكلها تامة سنداً.
وروى الترمذي في سننه عن عبد الله بن مسعود روايتين، وعن أبي سعيد الخدري روايتين كلها صحيحة السند.
كما روى الحافظ أحمد بن علي التميمي في مسند أبي يعلى رواية صحيحة عن أبي هريرة في ذلك.
وغير هؤلاء ممن سبقوا ابن خلدون، فهل لهذا الرجل بعد الإغماض عن الروايات الكثيرة الصحيحة سنداً عذر في التشكيك في عقيدة المهدي، وهل نقبل ترك التعرض لها، مع أنَّه كان في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري، وأغلب المتقدم ذكرهم من المصنفين قد ألفوا مصنفاتهم في القرن الثالث والرابع الهجريين؟
الحب يعمي ويصم:
هناك جملة من الروايات الصحيحة على شرط الشيخين لكنهما لم يخرجاها:
١ - ما روي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: يخرج في آخر أُمَّتي المهدي يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحاً وتكثر الماشية وتعظم الأُمَّة يعيش سبعاً أو ثمانياً.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٦٩).
٢ - ما روي عن الخدري أيضاً عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
«لا تقوم الساعة حتَّى تملأ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً ثم يخرج من أهل بيتي من يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٩) الحاكم المستدرك على الصحيحين: ٤: ٥٥٧-٥٥٨؛ كتاب الفتن والملاحم.
↑صفحة ٤٩↑
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه(٧٠).
٣ - ما روي عن ثوبان قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونكم قتلاً لم يُقْتَله قوم، ثم ذكر شيئاً لا أحفظه، فقال: إذا رأيتموه فبايعوه، ولو حبواً على الثلج فإنَّه خليفة الله المهدي.
ذكره البوصيري في الزوائد وقال: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين(٧١).
٤ - ما رواه الصنعاني عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بلاء يصيب هذه الأُمَّة حتَّى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم فيبعث الله رجلاً من عترتي من أهل بيتي فيملأ به الأرض قسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدع السماء من قطرها شيئاً إلَّا صبته مدراراً، ولا تدع الأرض من مائها شيئاً إلَّا أخرجته، حتَّى تتمنى الأحياءُ الأموات، يعيش في ذلك سبع سنين أو ثمان أو تسع سنين.
هذا الحديث أخرجه (مع اختلاف) الحاكم في المستدرك وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ويبدو أنه صحيح على شرطهما.
بل رووا رواية قال عنها الإمام ابن الحافظ مرضياً سنداً إلى جابر، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من كذّب بالدجّال فقد كفر، ومن كذّب بالمهدي فقد كفر»(٧٢).
وأشار إليها السيوطي بقوله: وأخرج أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار عن جابر بن عبد الله وأتى بنفس النص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٠) المستدرك ٤: ٥٥٧.
(٧١) الحاكم - المستدرك: ٤: ٤٦٣-٤٦٤، كتاب الفتن والملاحم.
(٧٢) المقدسي الحنبلي - فرائد فوائد الفكر: ص٢١٩-٢٢٠.
↑صفحة ٥٠↑
وقد ذكر ابن خلدون هذه الرواية فقال: وحسبك هذا غلواً، والله أعلم بصحة طريقه (أبو الإسكاف في فوائد الأخبار) إلى مالك بن أنس) على أن أبا بكر الإسكاف عندهم متهم وضاع(٧٣).
ولا يخفى ما في ردّ الأول، إذ الغلو هو تجاوز الحد، وأين هو الحد الذي تجاوزته الرواية ليكون مضمونها غلواً؟ هل حقق الحد وعيّنه؟
أخبار المهدي متواترة عند القوم:
لقد صرَّح بعض علماء العامة بأنَّ روايات المهدي متواترة، والمتواتر لا يحتاج إلى الإثبات السندي، قال ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب:
وقد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المهدي وأنَّه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين ويملأ الأرض عدلاً وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى خلفه...
والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح البتة إسناداً(٧٤).
وقال ابن حجر الهيتمي: الأظهر أن خروج المهدي قبل نزول عيسى وقيل بعده، قال أبو حسين الأجري [الأبري]: (وقد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بخروجه وأنه من أهل بيته وأنه يملأ الأرض عدلاً وأنه يخرج مع عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فيساعده على قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين، وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه) انتهى، وما ذكره من أن المهدي يصلي بعيسى هو الذي دلت عليه الأحاديث كما علمت(٧٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٣) مقدمة ابن خلدون: ص٨٩٧، طبعة لجنة البيان العربي، الطبعة الثانية (المحقق).
(٧٤) ج٥، ص٨٧.
(٧٥) الصواعق المحرقة: ص١٦٢.
↑صفحة ٥١↑
وقال المحقق في هامش الصواعق:
أحاديث المهدي كثيرة متواترة، ألَّف فيها كثير من الحفاظ منهم أبو نعيم، وقد جمع السيوطي ما ذكره أبو نعيم وزاد عليه في (العرف الوردي في أخبار المهدي) وللمؤلف ابن حجر في كتابه المختصر في علامات المهدي المنتظر(٧٦).
وقال شمس الدين السفاريني في لوائح الأنوار البهية:
قد كثرت الأقوال في المهدي حتَّى قيل: لا مهدي إلَّا عيسى، والصواب الذي عليه أهل الحق أن المهدي غير عيسى وأنه يخرج قبل نزول عيسى، وقد كثرت بخروجه الروايات حتَّى بلغت حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة حتَّى عد من معتقداتهم.
وجاء في رسالة الشوكاني الزيدي الموسومة بالتوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح (والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً، فيها الصحيح والحسن والضعيف والمنجبر، وهي متواترة بلا شك وشبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما هو دونها على جميع الاصطلاحات المقررة في الأصول).
وقال محمد صديق القنوجي في باب الفتن التي تكون بين يدي الساعة:
منها المهدي الموعود المنتظر الفاطمي وهو أولها والأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها كثيرة جداً وتبلغ حد التواتر، وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد(٧٧).
وفي كتاب العطر الوردي قول المحدث البُلبَيسي: وقال الحافظ بن الحسين: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها في المهدي وأنه من أهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٦) عبد الوهاب عبد اللطيف هامش الصواعق المحرقة: ص١٦٣.
(٧٧) الإذاعة: ص١١٣.
↑صفحة ٥٢↑
بيت المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنه يملك سبع سنين ويملأ الأرض عدلاً وأنه يخرج في زمنه عيسى ويصلي خلفه(٧٨).
وقال محمد بن جعفر الكتاني الفاسي المالكي:
والحاصل أنَّ الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة وكذا الواردة في الدجال وفي نزول سيدنا عيسى بن مريم (عليهما السلام)(٧٩).
ونسب شيخ الأزهر محمد الخضر حسين المصري إلى الشوكاني أنه يقول بتواترها(٨٠).
وقال الغماري:
بيَّنت أن أحاديث المهدي متواترة وأن منكرها يعتبر مبتدعاً ضالاً من جملة الفرق المبتدعة الضالة(٨١).
السادس: سلبية موقف ابن خلدون من أهل البيت (عليهم السلام):
إنَّ للرجل موقفاً سلبياً من أهل البيت (عليهم السلام) رغم شواهد الحق التي لم ينكرها، فهو يقول: ولو صح السند إلى جعفر الصادق لكان نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه.
فهم (يعني أهل البيت (عليهم السلام)) أهل الكرامات، وقد صح عنه (يعني الصادق (عليه السلام)) أنَّه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصح كما يقول، وقد حذر يحيى ابن عمه من مصرعه وعصاه فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك بهم علماً وديناً وآثاراً(٨٢).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٨) القطر الشهدي في أوصاف المهدي وشرحه العطر الوردي.
(٧٩) نظم المتناثر: ص١٤٧.
(٨٠) مجلة الهداية الإسلامية، محرم ١٣٦٩.
(٨١) الغماري المهدي المنتظر: ص٥، ١٧.
(٨٢) المقدمة: ص٢٧٧-٢٨٠، فصل ٤.
↑صفحة ٥٣↑
ولكن ذلك لا يخرجه عن دائرة الاتِّهام، فما أكثر من روى عن الصادق وأهل بيته (عليهم السلام) ومن رووا عنه (عليه السلام) لم يكونوا من أتباعه فقط، فما أكثر من روى عنه من العامة وقد ذاع صيته بين طلاب العلم وبلغ عدد الناقلين عنه بالآلاف، فهل نتعقَّل أنَّه لم يقف على طريق واحد سليم ولو وفق موازينه إلى الصادق (عليه السلام)؟
هلّا نظر في رواية من روايات الصادق (عليه السلام) في المهدي (عجَّل الله فرجه) وما أكثرها، وهو يقول عنه ما ذكرناه من نص كلامه.
فما ذكره في كلامه السابق من أن المشكلة عنده في الطريق الموصل للأئمة (عليهم السلام) والناقل عنهم لا يبدو أنه صحيح خصوصاً وأنَّه يقول في كلام آخر عن ابتداع مذهب من قبل أهل البيت وتفرد في فقه وليس من شيعتهم.
يقول عن مذهب أهل البيت في الفقه، وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به(٨٣)، وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم وهي كلها أصول واهية وشذ بمثل ذلك الخوارج... إلى آخر كلامه.
فكيف تسمح له نفسه بالتسليم لقيام دولة الحق على يد حفيد لهم ادَّخرته السماء لهذه المهمة العظيمة؟
وقد توهم بعضٌ(٨٤) أنَّ ابن خلدون أراد أن يدلس فقال:
[وربما عارضوها (الروايات الواردة في المهدي (عجَّل الله فرجه)) ببعض الأخبار] وقد تقدمت عبارته حيث لا يوجد وفق بعض متتبعي العامة إلَّا حديث واحد موضوع متفق على وهنه ونكارته بين أهل الحديث وهو ما رواه محمد بن خالد الجندي وتفرد به عن أنس بن مالك عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: لا مهدي إلَّا عيسى بن مريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٣) تاريخ ابن خلدون: ج١، ص٤٤٦.
(٨٤) السيد الغريفي في كتابه.
↑صفحة ٥٤↑
وقد ذكر ابن خلدون في الراوي أنه ضعيف مضطرب.
قال ابن خلدون في تعليقه على الخبر(٨٥):
وقال يحيى بن معين في محمد بن خالد الجندي: إنَّه ثقة، وقال البيهقي: تفرد به محمد بن خالد، وقال الحاكم فيه: إنه رجل مجهول واختلف عليه في أسناده، فمرة يقول كما تقدم وينسب ذلك لمحمد بن إدريس الشافعي، ومرة يروي عن محمد بن خالد عن أبان عن الحسن عن النبي [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] مرسلاً، قال البيهقي: فرجع إلى رواية محمد بن خالد وهو مجهول عن أبان أبي عياش وهو متروك عن الحسن عن النبي [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] وهو منقطع، وبالجملة فالحديث ضعيف مضطرب.
وقد قيل في (أن لا مهدي إلَّا عيسى) أي لا يتكلم في المهد إلَّا عيسى، يحاولون بهذا التأويل أو الجمع بينه وبين الأحاديث، وهو مدفوع بحديث جُرَيح(٨٦) ومثله من الخوارق.
لا مهدي إلَّا عيسى:
قال الألباني(٨٧):
منكر أخرجه ابن ماجة(٨٨) والحاكم(٨٩) وابن الجوزي(٩٠)... من طريق محمد بن خالد الجَنَدي عن أبان بن صالح عن الحسن عن أنس مرفوعاً بلفظ لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٥) مقدمة ابن خلدون: ص٩١٥-٩١٦، طبعة لجنة البيان العربي، الطبعة الثانية (المحقق).
(٨٦) المقصود رواية جريح الراهب، الذي اتُّهم بالزنا بمومسة بعد أن ادَّعت عليه أنه أبو ولدها، فخاطب الولد وسأله من أبوك؟ فقال: هذا الراعي، والقصة طويلة، والرواية تحدثت عن ثلاثة تكلموا في المهد: عيسى (عليه السلام) والطفل الذي برَّأ يوسف (عليه السلام) من دعوى زليخا ﴿وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ...﴾ (يوسف: ٢٦)، والصبي في قصة جريح.
(٨٧) الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني: ج١، ص١٧٥، رقم الحديث ٧٧.
(٨٨) ٢/٤٩٥.
(٨٩) ٤/٤٤١.
(٩٠) الواهيات: ١٤٤٧.
↑صفحة ٥٥↑
يزداد الأمر إلَّا شدة، ولا الدنيا إلَّا إدباراً، ولا الناس إلَّا شحاً، ولا تقوم الساعة إلَّا على شرار الناس، ولا مهدي إلَّا عيسى بن مريم.
ثم قال الألباني: وهذا إسناد ضعيف فيه علل ثلاث:
الأولى: عنعنة الحسن البصري، فإنَّه كان يدلِّس.
الثانية: جهالة محمد بن خالد الجَنَدي فإنَّه مجهول، كما قال الحافظ في (التقريب) تبعاً لغيره كما يأتي.
الثالثة: الاختلاف في سنده، قال البيهقي: قال أبو عبد الله الحافظ:
(محمد بن خالد مجهول واختلفوا عليه في أسناده، فرواه صامت بن معاذ، قال: ثنا يحيى بن السكن: ثنا محمد بن خالد... فذكره، قال صامت: عدلت إلى الجند مسيرة يومين من صنعاء فدخلت على محدث لهم فوجدت هذا الحديث عنده عن محمد بن خالد عن أبان بن أبي عياش عن الحسن مرسلاً، قال البيهقي: فرجع الحديث إلى رواية محمد بن خالد الجندي وهو مجهول، عن أبان بن أبي عياش وهو متروك عن الحسن عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو منقطع، والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح إسناداً.
وقال الذهبي في الميزان: إنه خبر منكر، ثم ساق الرواية الأخيرة عن ابن أبي عياش عن الحسن مرسلاً، ثم قال: فانكشف ووهى.
وقال الصغاني: موضوع، كما في الأحاديث الموضوعة للشوكاني(٩١).
ونقل السيوطي في العرف الوردي في أخبار المهدي(٩٢) عن القرطبي أنه قال في التذكرة: إسناد ضعيف والأحاديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في التنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة ثابتة أصح من هذا الحديث، فالحكم بها دونه(٩٣).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩١) ص١٩٥.
(٩٢) ٢/٢٧٤، من الحاوي.
(٩٣) انتهى كلام الألباني: ص١٧٥-١٧٦.
↑صفحة ٥٦↑
ثم يرد على هذا الحديث على مبنى المشكلين بالإشكال الأول، وهو عدم نقل البخاري ومسلم لأخبار المهدي أن هذا الحديث لم يروه الشيخان، فكيف يعتمد عليه في رد روايات قد روى الشيخان بعضها ولو بدون ذكر الصفة؟
والحاصل من مجموع ما تقدم: أن ابن خلدون غير متخصص في نقد الأحاديث وغير مأمون في نفس النقل واستيعاب النقل ومن السهل عليه التشكيك بما تظافرت الكلمات في تواتره، مضطرب الكلمات في تقييم أسانيد الروايات، متحامل على أهل البيت (عليهم السلام).
فكيف يكون تضعيفه للروايات وتحديد عددها مستنداً لباحث عن الحقيقة؟
↑صفحة ٥٧↑