العدد ١٨/ ذي الحجة / ١٤٤٦ هـ

فتن آخر الزمان وأساليب المواجهة (فتنة السفياني أنموذجاً)

فتن آخر الزمان وأساليب المواجهة
(فتنة السفياني أنموذجاً)

علاء عبد علي مخيط السعيدي

↑صفحة ٠↑

مقدمة:...................١٦٣
تمهيد: الفتنة: مفهومها، سُنَنيَّتها، أنواعها:...................١٦٥
أوَّلاً: مفهوم الفتنة:...................١٦٥
ثانياً: الفتنة سُنَّة إلهية:...................١٦٥
ثالثاً: أنواع الفتن:...................١٦٦
الغفلة عن بداية الفتنة:...................١٦٦
المطلب الأول: الأساليب العامة لمواجهة الفتنة:...................١٦٧
أوَّلاً: الصبر وعدم الانجرار إلى مزالق الفتنة:...................١٦٧
ثانياً: اتِّباع القيادة الرشيدة:...................١٦٧
ثالثاً: استعمال القوة في مواجهة الفتنة:...................١٦٨
المطلب الثاني: فتن آخر الزمان، وعوامل الوقوع فيها:...................١٦٩
أولاً: كثرة الفتن في آخر الزمان:...................١٦٩
ثانياً: عوامل الوقوع في فتن آخر الزمان:...................١٧٠
المطلب الثالث: فتنة السفياني، وأساليب مواجهتها:...................١٧٣
أولاً: فتنة السفياني:...................١٧٣
ثانياً: أساليب مواجهة فتنة السفياني:...................١٧٦

↑صفحة ٠↑

مقدمة:
الحمد لله رب العالمين على عظيم مننه، وسوابغ آلائه، وأفضل الصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام البشير النذير والسراج المنير محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، الذين جعل الله تعالى شأنه التمسك بهم أماناً من الضلالة، ونجاة من الهلكة.
خلق الله سبحانه عالم الوجود بموجب نظام دقيق، وقوانين صارمة يسير على وفقها، ووضع لحياة الإنسان في الدنيا سُنناً ونواميس محكمة تتَّسم بالاطِّراد في جميع الأزمنة، يقول تعالى: ﴿سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ (الفتح: ٢٣)، وتتَّسم أيضاً بالشمول لعامة الأُمم، يقول سبحانه: ﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ (الأحزاب: ٦٢)، كما تتَّسم بالثبات وعدم التغيُّر والتخلُّف، يقول تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ (فاطر: ٤٣).
ومن السُنن الإلهية المطردة في حياة الإنسان سُنَّة الابتلاء والامتحان والاختبار بالفتن المتعددة، يقول تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا

↑صفحة ١٦٣↑

آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: ٢)، وذلك بغرض تمييز المؤمنين الصادقين من الأدعياء الكاذبين، يقول سبحانه: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: ٣).
إنَّ هذه الفتن تختلف في طبيعتها وشدة تأثيرها على الناس عموماً، والمؤمنين على نحو الخصوص، فمنها عام يشمل أكثر الدول وأغلب الأُمم، ومنها خاص يقتصر تأثيره على بعض البلدان والشعوب.
ومن أشد الفتن الخاصة وأعظمها خطراً على المؤمنين في آخر الزمان فتنة السفياني الذي يسبق خروجه ظهور القائم بفترة غير طويلة، لما سيترتَّب عليه من افتتان كثير من المسلمين به، بل وحتَّى بعض ضعيفي العقيدة من المؤمنين.
وإنَّ تجنب الوقوع في شراك فتنة السفياني يتطلَّب تحلّي المؤمنين بالوعي والبصيرة للتمكُّن من تجاوز ظاهر ما يواجهونه، والرؤية النافذة لواقع حركته، بنحو يحول دون خطئهم في تشخيص ضلال وانحراف هذه الحركة، حتَّى وإنْ تمَّت تغطيتها بغلاف من الخير والصلاح يموِّه على الناس حقيقتها، ويمنع فاقدي البصيرة من رؤية واقعها، إذ سيرى ذووا البصيرة من المؤمنين ما تضمره حركته من الباطل رغم محاولات ستره بغشاوة من الحق، الأمر الذي سيعصمهم من التورط بالدخول فيها.
وتجدر الإشارة - هنا - إلى عدم تعرُّض البحث إلى التقييم السندي للروايات الواردة فيه؛ وذلك لسبيين:
الأوَّل: أنَّه تقرَّر في علم الأصول أنَّ معنى حجية الخبر الظني هو التعبد بمضمونه مع غض النظر عن احتمال عدم مطابقته للواقع، وهذا إنَّما يأتي في روايات الأحكام، والروايات الواردة في البحث ليست من هذا القبيل.

↑صفحة ١٦٤↑

الآخر: أنَّه يمكن القول باعتبار عددٍ غير قليلٍ من الروايات المرتبطة بموضوع الفتن بناءً على حجية الخبر الموثوق الصدور، لتوفرها على القرائن المفيدة للوثوق بالصدور، وإن كانت ضعيفةً بناءً على حجية خبر الثقة.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
تمهيد: الفتنة: مفهومها، سُنَنيَّتها، أنواعها:
أوَّلاً: مفهوم الفتنة:
الفتنة في اللغة، مصدر من فَتَنَ، وتُجمع على: فِتَن وفِتْنات.
قال الأزهري: جُماع معنى الفتنة في كلام العرب: الابتلاء، والامتحان. وأصلها مأخوذ من قولك: فَتنتُ الفضة والذهب، أذبتهما بالنار ليتميز الرديء من الجيد، ومن هذا قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ (الذاريات: ١٣)، أي: يحرقون بالنار(١).
وعليه فمفهوم الفتنة يُعبر عن الامتحان أو الاختبار الشديد الذي يتعرض له الإنسان، وقد يتسبب في إضلاله، وصرفه عن الحق إلى الباطل.
ثانياً: الفتنة سُنَّة إلهية:
من سُنن الله تعالى الجارية على الإنسان في حياته الدنيا التي لا تقبل التغيير أو التبديل سُنَّة الابتلاء والاختبار، ويؤكد القرآن الكريم أن ذلك واقع في هذه الأمة كما وقع في الأُمم السابقة، يقول تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: ٢-٣)، إذ تدل الآية صراحة إلى أن سُنَّة الله تعالى جرت بابتلاء المؤمنين واختبارهم من أجل تمييز الصادقين عن مدعي الإيمان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) تهذيب اللغة: ١٤/ ٢٩٦ - ٢٩٧.

↑صفحة ١٦٥↑

ثالثاً: أنواع الفتن:
ثمة نوعان من الفتن التي يواجهها المؤمن في حياته، هما:
الأولى: فتنة الشهوات، وهي الابتلاء بما يميل إليه طبع الإنسان من الشهوات المادية، والتي تتمثل في جمع الأموال، ومعاشرة النساء، والاستكثار من الأولاد، والتسلط على الآخرين، وغير ذلك، قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ (آل عمران: ١٤)، ويؤدِّي اتِّباع المؤمن للشهوات المادية - من دون تحديدها بالشرعي منها - إلى خروجه عن خط الإيمان إلى الفسق، الأمر الذي قد يستلزم حصول اختلال في عقيدته.
الأخرى: فتنة الشبهات، وهي الابتلاء بمواجهة الإنسان حركات وتيارات يختلط فيها الحق بالباطل بنحوٍ يصعب عليه التمييز بينهما، نتيجة ضعف عقيدته، وعمه بصيرته، وخاصة إذا ترافقت مع هوى النفس، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لأَنَّهَا تُشْبِهُ الحَقَّ، فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اليَقِينُ، وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ الهُدَى، وَأَمَّا أَعْدَاءُ اللهِ فَدُعَاؤُهُمُ الضَّلالُ، وَدَلِيلُهُمُ العَمْى»(٢)، وتكمن خطورة وقوع المؤمن في هذه الفتنة أنها تتسبب في حصول انحراف في عقيدته، فيسير في سبل الضلال والباطل.
والمراد من الفتنة في هذا البحث النوع الثاني، وهي فتنة الشبهات.
الغفلة عن بداية الفتنة:
إنَّ من أخطر ما تتميز به فتنة الشبهات أنها تبدأ من غير أن يلتفت الناس إليها، إذ لا يرون فيما يجري أنَّه فتنة يتوجَّب عليهم الحذر من الوقوع فيها، بل يرون أنَّها حدث عابر كغيره يحصل في فترة من الزمن وينتهي، وأنَّ موقفهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢) نهج البلاغة: خ٣٨: ٨١.

↑صفحة ١٦٦↑

منه هو يقتضيه العقل السليم، فينزلقون شيئاً فشيئاً إليها، فلا يشعرون إلّا وقد أصبحوا في وسط الفتنة، تتقاذفهم أمواجها إلى حيث يريد مثيروها.
وقد أوضح الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ كثيراً من الناس يغفلون عند بداية قيام الفتنة، فإذا هدأ غبارها وانطفأت نارها التفتوا إليها، إذ قال (عليه السلام): «إِنَّ الفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً، وَيُخْطِئْنَ بَلَداً»(٣).
المطلب الأول: الأساليب العامة لمواجهة الفتنة:
يمكن تلخيص أهم الأساليب العامة لمواجهة الفتنة في الآتي:
أوَّلاً: الصبر وعدم الانجرار إلى مزالق الفتنة:
إنَّ على المؤمن أن لا يتسرَّع في اتِّخاذ الموقف عند بداية نشوب الفتنة، وأن يستعين بالصبر حتَّى تُسفر له عن حقيقتها، وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «كُنْ فِي الفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ، لَا ظَهْرٍ فَيُرْكَبَ، ولَا ضَرْعٍ فَيُحْلَبَ»(٤)، أي إنَّه يجب على المؤمن أن يكون في ظرف الفتنة كصغير الناقة الذي لا يتجاوز عمره السنتين، لا يصلح للركوب عليه، ولا لأخذ اللبن منه، إذ لا طاقة له على حمل راكبه، كما أنه لم يصل إلى سن البلوغ فيدر ضرعه اللبن.
ثانياً: اتِّباع القيادة الرشيدة:
يمكن أن يؤدّي عدم اتِّباع المؤمن للقيادة المؤهلة لتولي أمور الأُمَّة في ظرف الفتنة إلى سقوطه فيها، فمع وجود قيادة رشيدة فهي من تقع على عاتقها مسؤولية تشخيص المسار الصحيح في ظروف الفتنة، وهذا ما يعود بالمصلحة على الأُمَّة، إذ يُجنبها الفشل في الاختبار، والوقوع في مزالق الفتن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣) نهج البلاغة: خ٩٣: ١٣٧.
(٤) نهج البلاغة: ك١: ٤٦٩.

↑صفحة ١٦٧↑

وبخلاف ذلك ما لو تصدي أشخاص غير مؤهلين لقيادة الأُمَّة فإنَّه سينجم عنه وقوع الأُمَّة في فتن مختلفة بما يؤدي إلى ضياع البلاد، وانحراف العباد.
فقد ذهب الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء وليس معه إلَّا اثنان وسبعون شخصاً من أهل بيته وأصحابه ليواجه الآلاف من جيش الأعداء، ومع أن ظاهر الأمر يقتضي عدم الإقدام على مثل هذه المواجهة، لوضوح أن النتيجة الحتمية هي خسارة هذه المعركة، ولكن عند وجود قائد يُقدِر أن النتائج البعيدة التي ستترتب على المواجهة ستكون أكثر أهمية من التضحيات التي سيقدمها، وأن ذلك سيحفظ مستقبل الدين والأمة، ولدى هذا القائد المقدرة على تحمل مسؤولية هذا الأمر، وعنده الاستعداد لتقديم كل ما تتطلَّبه المعركة من تضحيات جسيمة، فإن اتِّباع المؤمنين لهذا القائد سيحول دون وقوعهم في الفتنة، ويمنع فشلهم في الاختبار، وهو ما حصل بالفعل في كربلاء، فقد حُفِظ الدين بفضل تضحيات الإمام الحسين (عليه السلام) والثلة الطيبة من أهل بيته وأصحابه الذين اتبعوا قيادته للمعركة فأدركوا معه الفتح.
ثالثاً: استعمال القوة في مواجهة الفتنة:
يتطلَّب الوقوف بوجه الفتنة في بعض الأحيان اللجوء إلى القوة، لدرء خطرها عن عامة المؤمنين، وهذا ما أشار قوله تعالى: ﴿وَقاتِلُوهُمْ حتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: ١٩٣)، وغيره مما فيه دلالة على وجوب الوقوف بوجه الفتنة، وعدم السكوت عنها، والسماح بوقوع عامة الناس فيها، لأن الضرر المترتِّب عليها أعظم من الضرر المترتِّب على القتال، وجاء في خطبة للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن فتنة اتِّباع الجمل: «فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلَّا قِتَالُهُمْ أَوِ الجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ

↑صفحة ١٦٨↑

مُحَمَّدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ القِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ العِقَابِ، وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الْآخِرَةِ»(٥)، ولهذا واجه أمير المؤمنين (عليه السلام) رؤوس الفتنة في زمانه بحزم شديد، ولم يتوان عن مقاتلتهم.
وسيأتي في المطلب الثالث التعرض إلى أساليب أخرى لمواجهة الفتنة.
المطلب الثاني: فتن آخر الزمان، وعوامل الوقوع فيها:
أولاً: كثرة الفتن في آخر الزمان:
تواجه الأُمَّة عامة والمؤمنون خاصة الكثير من الفتن كلما اقتربنا أكثر من عصر ظهور الإمام صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه)، والتي تؤدي إلى غربلة مدَّعي الالتزام بطريق الحق، وتمييز المؤمنين الصادقين المتمسكين بما جاء به أئمة الهدى من آل محمد (عليهم السلام)، عن سواهم ممن يدَّعون التمسك بهديهم، وهذا ما أكدت عليه الكثير من الروايات، منها:
عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: قال أبو الحسن (عليه السلام): «أَمَا وَاَللهِ لاَ يَكُونُ اَلَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْيُنَكُمْ حتَّى تُمَيَّزُوا أَوْ تُمَحَّصُوا حتَّى لاَ يَبْقَى مِنْكُمْ إِلاَّ اَلأَنْدَرُ، ثم تلت: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٢]»(٦).
وعن محمد بن منصور الصيقل، عن أبيه، قال: كنت أنا والحارث بن المغيرة وجماعة من أصحابنا جلوساً وأبو عبد الله (عليه السلام) يسمع كلامنا، فقال لنا: «في أيِّ شيءٍ أنْتُمْ؟ هَيْهاتَ هيْهاتَ، لا واللهِ لا يكونُ ما تَمُدُّونَ إليهِ أعْيُنَكُمْ حتَّى تُغَرْبَلُوا، لا واللهِ لا يَكونُ ما تَمُدُّونَ إليهِ أعْيُنَكُمْ حتَّى تُمَحَّصُوا، لا واللهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥) نهج البلاغة: خ٥٤: ٩١.
(٦) غيبة الطوسي: ١/ ٣٣٦ - ٣٣٧ (٢٨٣).

↑صفحة ١٦٩↑

لا يَكونُ ما تمُدُّونَ إليهِ أعْيُنَكُمْ حتَّى تُمَيَّزوا، لا واللهِ ما يكونُ ما تَمُدُّونَ إليهِ أعْيُنَكُم إلَّا بعْدَ إياسٍ، لا والله لا يكونُ ما تمُدُّونَ إليهِ أعيُنَكُمْ حتَّى يَشْقى مَنْ يَشْقى، ويَسْعَدَ مَنْ يَسْعَدُ»(٧).
قوله: «حتَّى يشقى مَنْ يشقى» يعني أنَّ الغاية من الغربلة والتمحيص والتمييز هي أن يقاسي الشقاء مَنْ علم الله أن مآله بسوء اختياره هو الشقاء، فيسقط في الفتنة، و«يسعد مَنْ يسعد» وينعم بالسعادة مَنْ علم الله أن خاتمة أمره بحسن اختياره هي السعادة، فينجو من الفتنة.
وعن مهزم بن أبي بردة الأسدي، وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «وَاللهِ لَتُكْسَّرُنَّ تَكَسُّرَ الزُّجَاجِ، وَإِنَّ الزُّجَاجَ لَيُعَادُ فَيَعُودُ كَمَا كَانَ، وَاللهِ لَتُكَسَّرُنَّ تَكَسُّرَ الفَخَّارَ، فَإِنَّ الفَخَّارَ لَيَتَكَسَّرُ فَلَا يَعُودُ كَمَا كَانَ، وَوَاللهِ لَتُغَرْبَلُنَّ، وَوَاللهِ لَتُمَيَّزُنَّ، وَوَاللهِ لَتُمَحَّصُنَّ حتَّى لا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا الأَقَلُّ»، وَصَعَّرَ كَفَّهُ(٨).
قوله: «لتكسرن تكسر الفخار» يدل على أن مَنْ يفشل في الابتلاء من المؤمنين، سيسقط في الفتنة وقد لا يمكنه تدارك الأمر، والعودة إلى سبيل الحق والهداية، وفي هذا تعبير عن مدى خطورة الوقوع الفتنة. و(صَعَّرَ كفه) أي: صَغَّرَها، في إشارة إلى قلّة مَنْ يبقى على الحق بعد الغربلة والتمييز والتمحيص.
ثانياً: عوامل الوقوع في فتن آخر الزمان:
من الواضح أن الفتن الواقعة في هذه المرحلة تختلف عن سواها في أنها لا تقتصر على عامة أفراد الأُمَّة، بل تشمل حتَّى خاصة المؤمنين، إذ سيعمل أعداء الأمة على استغلال بعض العوامل للتسبب في فتنتهم بما يؤدي إلى اختلال عقيدتهم، ولعل من أهمها:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧) غيبة النعماني: ١/ ٢١٥.
(٨) غيبة النعماني: ١/ ٢١٣.

↑صفحة ١٧٠↑

(١) استعجال المؤمنين تحقق الفرج بظهور صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه)، والغفلة عن تقدير الله تعالى للأمور، وأن الظهور لا يتحقق إلّا حين يريد الله سبحانه تحققه.
وقد وردت الإشارة إلى هذا المعنى في كثيرٍ من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام):
فعن أبي المرهف قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «هَلَكَتِ اَلمَحَاضِيْرُ»، قُلْتُ: وما المَحَاضِير؟ قَالَ: «اَلمُسْتَعْجِلُونَ، وَنَجَا اَلمُقَرِّبُونَ، وَثَبَتَ اَلحِصْنُ عَلَى أَوْتَادِهَا. كُونُوا أَحْلاَسَ بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ الغَبْرَةَ [خ: اَلفِتْنَةَ] عَلَى مَنْ أَثَارَهَا، وَإِنَّهُمْ لاَ يُرِيدُونَكُمْ بِحَاجَةٍ [خ: بجائِحَةٍ] إِلاَّ أَتَاهُمُ اَللهُ بِشَاغِلٍ لِأَمْرٍ يَعْرِضُ لَهُمْ»(٩).
قوله: «المحاضير» جمع المُحَضير، وهو المتعجل، والمراد: المستعجلون للظهور. و«المُقَرِّبون» بكسر الراء المشددة، الذين يقولون إن الفرج قريب، تصديقاً منهم بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَراهُ قَرِيباً﴾ (المعارج: ٦-٧)، بل ويعملون على تقريب الفرج عن طريق السعي إلى توفير ما يتعلق بهم من شروط الظهور. و«ثبت الحصن على أوتادها» يحتمل أن المراد منه: استقرت دولة المخالفين على أسسها التي قامت عليها، فلا تزول إلّا حين تنقضي أيامها التي قدَّرها الله تعالى بحكمته، يشهد لذلك ما روي عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام) قال: «يا علي، إن إزالة الجبال الرواسي أهون من إزالة مُلكٍ لم تنقض أيامه»(١٠).
وقوله: «كونوا أحلاس بيوتكم» أي: الزموا بيوتكم لا تفارقوها، من قولهم: حَلِسَ بالمكان حَلساً: لزمه. والمراد: عدم الانجرار إلى الفتنة بما يتسبب في الفشل في الابتلاء، والخروج عن سبيل الهدى إلى الضلال. و(الغبرة أو الفتنة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩) غيبة النعماني: ١/ ٢٠١.
(١٠) وسائل الشيعة: ١٥/ ٥٣.

↑صفحة ١٧١↑

على من أثارها) إن ضرر الفتنة يعود على مَنْ يُثيرها بشكل أكبر من تضرر غيره بها، كما أن مثير الغبار يتضرر به أكثر من غيره. و(لا يريدونكم بحاجة أو بجائحة إلّا أتاهم الله بشاغل) يدل على أنه كلما عقد أعداء المؤمنين العزم، ودبروا أمراً من أجل القضاء عليهم واستئصالهم، أوجد الله تعالى بقدرته سبباً ينشغل به هؤلاء الأعداء عنكم، فلا يتم لهم ما أرادوا ودبروا في مصداق لقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحج: ٣٨).
وعن عبد الرحمن بن كثير قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)، إذ دخل عليه مهزم، فقال له: جعلت فداك أخبرني عن هذا الأمر الذي ننتظر، متى هو؟ فقال: «يَا مهزمُ، كَذَبَ الوَقَّاتُونَ، وَهَلَكَ المُسْتَعْجِلُونَ، وَنَجَا المُسَلِّمُونَ»(١١).
قوله: (الوقاتون) هم الذين يحددون وقتاً معيناً لظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، و(المستعجلون) هم المتعجلون لظهوره الشريف قبل الوقت الذي عينه الله تعالى لذلك، و(المُسَلِّمون) هم الذين سلّموا لأمر الله تعالى فيما يُقدِّره من تحقق الفرج في الوقت الذي يريده سبحانه.
(٢) انتشار دعوات الإصلاح المزيفة، سيتَّخذ أعداء الأُمَّة من شعارات الإصلاح مدخلاً لإيقاع المؤمنين في ضلالات الفتن، نظراً إلى انتشار الفساد في الأرض، وسيعملون على إيجاد كثير من التيارات والحركات التي تدَّعي الإصلاح، وتُظهر ارتباطها بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بنحوٍ من الأنحاء، بهدف التشويش على عقيدة عامة المؤمنين فيه بوصفه المصلح الذي أراد الله تعالى أن يستقيم حال الأُمَّة والبشرية جمعاء على يديه، وخاصة عندما يتبيَّن - ولو بعد حين - بطلان هذه التيارات والحركات، إذ سيفقد المؤمنون الثقة بكل مَنْ يدعو إلى الإصلاح في الأُمَّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١) الكافي: ١/ ٣٦٨.

↑صفحة ١٧٢↑

(٣) كثرة أدعياء المهدوية، أو الارتباط بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، إذ سيعمل الأعداء على استغلال انتظار المؤمنين لتحقق العدل على يد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فيطرحون قادة وحكاماً يسيرون بالعدل في الأمة، ويعملون بالحق ليوهموا المؤمنين بأن ذلك ليس حِكراً على المهدي (عجَّل الله فرجه) من آل محمد (عليهم السلام)، بما قد يؤدي إلى أن يتجه الكثير منهم إلى رفض حركته، بل والوقوف بوجهه، كونهم قد عاشوا في ظل ولاة صالحين، وحكام عدول، واستقامت على أيديهم أمور معاشهم، ومن ثَمَّ يرون أن تغييرهم يتسبب في وقوع ضرر كبير عليهم.
المطلب الثالث: فتنة السفياني، وأساليب مواجهتها:
أولاً: فتنة السفياني:
لقد حذر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من وقوع فتن بعده، وخص منها فتنة السفياني، وبيَّن (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّها آخر الفتن، فقد روى عبد الله بن مسعود: قال لنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أحذركم سبع فتن تكون بعدي: فتنة تُقبل من المدينة، وفتنة بمكة، وفتنة تُقبل من اليمن، وفتنة تُقبل من الشام، وفتنة تُقبل من المشرق، وفتنة من قِبل المغرب، وفتنة من بطن الشام، وهي فتنة السفياني»(١٢).
وفي حديث آخر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لتأتينَّكم بعدي أربع فتن؛ الأولى: يُستَحلُّ فيها الدماء، والثانية: يُستَحَلُّ فيها الدماء والأموال، والثالثة: يُستَحَلُّ فيها الدماء والأموال والفروج، والرابعة: صمّاء عمياء مُطبقة، تمور مور السفينة في البحر حتَّى لا يجد أحدٌ من الناس منها ملجأً، تطير بالشام، وتغشى العراق، وتخبط الجزيرة يدها ورجلها، يُعرك الأنام فيها البلاء عرك الأديم، لا يستطيع من الناس يقول: مَهْ مَهْ، لا ترفعونها من ناحيةٍ إلَّا انفتقت من ناحيةٍ أخرى»(١٣).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢) الفتن: ٢٨.
(١٣) الفتن: ٢٨.

↑صفحة ١٧٣↑

وقوله: (صماء عمياء مطبقة): يعني أنَّها فتنة لا تستمع إلى طلب إطفاء نارها، ولا تبصر مَنْ يقع عليه شررها وضررها، كناية عن خروجها عن السيطرة، كما أنَّها شاملة تحيط بالناس من كل جانب. و(تمور مور السفينة): تتحرَّك بهم بقوة جيئة وذهاباً كما تتأرجح السفينة التي يتقاذفها موج البحر. و(تطير بالشام): يكون موضع بدء تحرك هذه الفتنة من بلاد الشام. و(تغشى العراق): يشمل تأثيرها أرض العراق بحكم اتصال أرض الشام والعراق، وارتباط أهلهما ببعضهما. و(تخبط الجزيرة يدها ورجلها): يتوسع أثرها حتَّى تضرب جزيرة العرب بقوة. و(لا يستطيع من الناس يقول: مه مه): لا يتمكَّن أحدٌ من تهدئتها، وإيقاف تحركها، والتكرار للتأكيد والمبالغة. و(عرك الأديم): دلك الجلد بشدة عند دبغه، وفيه دلالة على شدة الابتلاء، وصعوبة الامتحان، بنحو لا يتمكن من تجاوز هذه الفتنة إلّا أقل القليل من المؤمنين. و(لا ترفعونها من ناحية إلّا انفتقت من ناحية أخرى): كلما حاول بعضٌ استئصالها، أو إخماد نارها من جهة، اضطرمت من جهة غيرها.
ولعل وجه تخصيص هذه الفتنة بالذكر دون سائر الفتن نابع من كونها من أخطر الفتن التي تواجهها الأُمَّة في آخر الزمان، إذ سينخدع فاقدو الوعي والبصيرة حتَّى من بعض المؤمنين بالسفياني، ويسقطون في فتنته، وذلك نتيجة اتِّباعه أسلوب التمويه على الناس بالتظاهر بالزهد في الملبس والمأكل، وإظهار العدل في الرعية، وعدم الاستئثار بالأموال دونهم، بل سيعمد إلى بذلها لهم، لاستمالتهم إلى جانبه، بخلاف سيرة مَنْ سبقه من الحكام.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث له عن السفياني: «وهذا الملعون يُظهر الزهد قبل خروجه، ويتقشف، ويتقنع بخبز الشعير، والملح الجريش، ويبذل الأموال، فيجلب بذلك قلوب الجُهَّال والأرذال، ثم يدّعي الخلافة، فيبايعونه،

↑صفحة ١٧٤↑

ويتبعهم العلماء الذين يكتمون الحق، ويظهرون الباطل، فيقولون: إنّه خير أهل الأرض‌»(١٤).
وفي كلام طويل لأمير المؤمنين (عليه السلام) ذكر فيه السفياني: «... وإنه ليعدل فيهم حتَّى يقول القائل: والله ما كان يقال فيه إلَّا كذب. والله إنهم لكاذبون، لو يعلمون ما تلقى أُمَّة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منه ما قالوا ذلك...»(١٥).
ورغم ما ذكرنا من شدّة خطورة فتنة السفياني إلَّا أنَّ ذلك لا ينبغي أن يكون سبباً لسيطرة الخوف واستيلاء الهلع على قلوب المؤمنين، فقد أخبرنا أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بأن ضرره على المخالفين سيكون أزيد منه على المؤمنين، وأنه في بداية تحركه ينشغل بهم عن المؤمنين مما يعطي الفرصة للمؤمنين للحذر منه، وتهيئة ما يلزم لتجاوز أو تقليل ضرره عليهم، كما أخبروا أنَّ مدة فتنته لن تكون طويلة، فعن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: «... فَأَبْشِرُوا ثُمَّ أَبْشِرُوا بِالَّذِي تُرِيدُونَ، أَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَعْدَاءَكُمْ يَقْتَتِلُونَ فِي مَعَاصِي اللهِ، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَلَى الدُّنْيَا دُونَكُم، وَأَنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ آمِنُونَ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُمْ. وَكَفَى بِالسُّفْيَانِيِّ نِقْمَةً لَكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَهُوَ مِنَ العَلامَاتِ لَكُمْ، مَعَ أَنَّ الفَاسِقَ لَوْ قَدْ خَرَجَ لَمَكَثْتُمْ شَهْراً أَوْ شَهْرَيْنِ بَعْدَ خُرُوجِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكُمْ بَأْسٌ حتَّى يَقْتُلَ خَلْقاً كَثِيراً دُونَكُمْ»، فقال له بعض أصحابه: فكيف نصنع بالعيال إذا كان ذلك؟ قال: «يَتَغَيَّبُ الرِّجَالُ مِنْكُمْ عَنْهُ، فَإِنَّ حَنَقَهُ وَشَرَهَهُ إِنَّما هِيَ [خ: هو] عَلَى شِيعَتِنَا، وَأَمَّا النّسَاءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ بَأْسٌ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى». قيل: فإلى أين مخرج الرجال، ويهربون منه؟ فَقال: «مَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجَ يَخْرُجْ إِلى المَدِينَةِ، أَوْ إِلى مَكَّةَ، أَوْ إِلى بَعْضِ البُلْدَانِ»، ثم قال: «مَا تَصْنَعُونَ بِالمَدِينَةِ؟! وَإِنَّمَا يَقْصُدُ جَيْشُ الفَاسِقِ إِلَيْهَا، وَلكِنْ عَلَيْكُمْ بِمَكَّةَ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤) مختصر كفاية المهتدي لمعرفة المهدي: ١/ ٢١٧.
(١٥) عقد الدرر في أخبار المنتظر: ١٥٩.

↑صفحة ١٧٥↑

فَإِنَّهَا مَجْمَعُكُمْ، وَإِنَّما فِتْنَتُهُ حَمْلُ امْرَأَةٍ: تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يَجُوزُهَا إِنْ شَاءَ اللهُ»(١٦).
ثانياً: أساليب مواجهة فتنة السفياني:
مضافاً إلى ما تقدم من الأساليب العامة لمواجهة الفتن يمكن مواجهة هذه الفتنة بالآتي:
أ - الوعي والبصيرة بطبيعة مشروع السفياني، وعدم الانخداع بالشعارات التي يرفعها، وما يقوم به من أعمال من أجل استمالة الناس وحتَّى الشيعة إلى جانبه، بإظهاره العدل والإنصاف معهم، وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الفِتَنِ، وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ»(١٧).
وعن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «العالِمُ بزَمانهِ لا تهجُمُ علَيهِ اللَّوابِس‏»(١٨).
و(اللوابس): الأمور المبهمة التي تحصل نتيجة عدم وضوح حقيقتها، وغياب القدرة على تمييز الحق من الباطل فيها، وهذا تعبير آخر عن الفتنة، فإنَّه إذا عَلِم الإنسان بطبيعة العصر وأهله، وعرف ما يجري حوله من أحداث زال ما يشوبها من إبهام، واتَّضح واقع الأمور، وحقيقة الفتن، وتجلَّت له الأهداف البعيدة منها، وكان قادراً على تجاوزها، دون أن يناله شيء من ضررها.
ب - التمسك بما كان يعتقد به المؤمنون من وجود إمام غائب من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يظهره الله تعالى في آخر الزمان، وأنَّه الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأنَّ إصلاح حال الأُمَّة وسائر العباد والبلاد لن يكون على يد شخص غيره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦) غيبة النعماني: ١/ ٣٠٩.
(١٧) نهج البلاغة: خ١٨٣: ٢٦٦.
(١٨) الكافي: ١/ ٢٧.

↑صفحة ١٧٦↑

فعن عبد الله بن سنان، قال: دخلت أنا وأبي على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا صِرْتُمْ فِي حَالٍ لا يَكُونُ فِيهَا إِمَامٌ هُدًى، وَلاَ عَلَمٌ يُرَى فَلاَ يَنْجُو مِنْ تِلْكَ اَلْحَيْرَةِ إِلاَّ مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ اَلْغَرِيقِ»، فقال أبي: هذا والله البلاء، فكيف نصنع - جُعلت فداك - حينئذٍ؟ قال: «إِذَا كَانَ ذَلِكَ وَلَنْ تُدْرِكَهُ فَتَمَسَّكُوا بِمَا فِي أَيْدِيكُمْ حتَّى يَصِحَّ لَكُمُ اَلْأَمْرُ»(١٩).
وعن الحارث بن المغيرة النصري، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: إنا نُرَوَّى بأنَّ صاحب هذا الأمر يُفقد زماناً، فكيف نصنع عند ذلك؟ قال: «تمسكوا بالأمر الأول الذي أنتم عليه حتَّى يبيّن لكم»(٢٠).
وعن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُصِيبُهُمْ فِيها سَبْطَةٌ يَأْرِزُ العِلْمُ فِيهَا كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذِلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِم نَجْمٌ»، قلت: فما السبطة؟ قال: «الفَتْرَةُ»، قلت: فكيف نصنع فيما بين ذلك؟ فقال: «كُونُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتَّى يُطْلِعَ اللهُ لَكُمْ نَجْمَكُمْ»(٢١).
وقوله: «تمسكوا بما في أيديكم» و«تمسكوا بالأمر الأول» و«كونوا على ما أنتم عليه» يدل على وجوب تمسك المؤمنين بأصول دينهم التي وصلت إليهم من أئمة آل البيت (عليهم السلام)، وعدم تزلزل عقيدتهم بما كانوا يؤمنون به - قبل أن تأتي الفترة التي يُطمس فيها العلم - من وجود إمام منتظر غائب بأمر الله تعالى، ومعنى (يأرِز) بكسر الراء: يرجع، أي يطوى العلم ويطمس بعد انتشاره وذيوعه، كناية عن انتشار الجهل في الأمة. والأحاديث المتقدمة تدل بنحو غير مباشر على تحذير المؤمنين من أن يتسبب انحسار العلم وشيوع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩) غيبة النعماني: ١/ ١٥٩.
(٢٠) غيبة النعماني: ١/ ١٦٠.
(٢١) غيبة النعماني: ١/ ١٦٠.

↑صفحة ١٧٧↑

 الجهل في انحراف عقيدتهم، والتورط بتصديق كل مَنْ يدَّعي أنَّه المهدي الذي بشَّر به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) إلى أن يستيقنوا من تحقق ظهوره.
وقد ورد ما يدل على ضرورة الاستمرار على الاعتقاد بإمامة المهدي من آل محمد (عليهم السلام) قبل ظهوره المبارك فيما رُوي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قوله: «طُوبى لِمَنْ أَدْرَكَ قائِمَ أَهْلِ بَيْتي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِهِ في غَيْبَتِهِ قَبْلَ قِيامِهِ، وَيَتَوَّلى أَوْلِيَاءَهُ، وَيُعادِي أعْداءَهُ، ذَلِكَ مِنْ رُفَقَائِي، وَذَوِي مَوَدَّتِي، وَأكْرَمُ أُمَّتِي عَلَيَّ يَومَ القِيامَةِ»(٢٢).
ج - التمسك بالقرآن الكريم، واتباع ما يأمر وينهى عنه، والعمل بأحكامه، والأخذ بما نطق به مِنْ تولّي أولياء الله تعالى، ومعاداة أعدائه.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، وماحل مصدق...» الحديث(٢٣).
قوله: «إذا التبست عليكم الفتن» في الدين بعدي بافتراء المفترين، وانتحال المبطلين، «كقطع الليل المظلم» في كونها مظلمة سوداء لا يهتدي فيها الإنسان إلى سبيل الحق، «فعليكم بالقرآن» فالزموا العمل بأحكامه التي نطق بها، ولا تتعدّوه، «فإنه شافع مشفَّع» لمَنْ عمل بما فيه، ولم يتركه إلى غيره، مقبول الشفاعة، «وماحل مصدق» مَحَلَ به: إذا سعى به إلى السلطان، أي إن القرآن يسعى بَمنْ لا يتبع ما فيه إلى الله (عجَّل الله فرجه)، فيصدقه الله في سعايته.
ووجه إرجاع الناس إلى القرآن عند وقوع الفتن الملتبسة التي يتداخل فيها الباطل مع الحق، نتيجة إلباس أئمة الضلال الباطل لبوس الحق، أمران:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٢) كمال الدين: ١/ ٢٨٦.
(٢٣) الكافي: ٢/ ٥٩٩.

↑صفحة ١٧٨↑

الأول: إن القرآن هو الثقل الأكبر الذي لا يفترق عن الثقل الأصغر المتمثل بعترة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إذ تواتر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابُ اللهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وأَنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ»(٢٤).
وفي قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا» دلالة واضحة على أنَّ التمسك بالقرآن وحده دون العترة ليس عاصماً من الضلال، بل إن العاصم منه هو التمسك بهما معاً، أي إنَّ إرجاع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى القرآن عند التباس الفتن هو إرجاع إلى العترة للأخذ بهديها، ولهذا فكلما ازداد التزام المؤمن بما في القرآن ازداد تمسكه بأئمة العترة (عليهم السلام).
الثاني: إنَّه ميزان يمكن به التمييز بين الحق والباطل، فبمقدار الالتزام بما فيه يعرف المؤمن أن هذه الراية راية هدى أو ضلال، وأن تلك الدعوة دعوة رشاد أو انحراف، فيكون القرآن سبباً في عصمته من الوقوع في الفتنة.
وعن الحارث الأعور قال: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّا إذا كنّا عندك سمعنا الذي نشدّ به ديننا، وإذا خرجنا من عندك سمعنا أشياء مختلفة مغموسة، ولا ندري ما هي. قال: «أوَقَد فعلوها»؟ قال: قلت: نعم. قال: «سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: أتاني جبرئيل، فقال: يا محمّد، ستكون في أمتك فتنةٌ. قلت: فما المخرج منها؟ فقال: كتاب الله، فيه بيان ما قبلكم من خبرٍ، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، مَنْ وليه من جبارٍ فعمل بغيره قصمه الله، ومَنْ التمس الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، لا تُزِيغه الأهوية، ولا تُلبِسه الألسنة»(٢٥).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤) وسائل الشيعة: ٢٧/ ٣٤.
(٢٥) تفسير العياشي: ١/ ٣.

↑صفحة ١٧٩↑

وعن الخشاب، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لا والله لا يرجع الأمر والخلافة إلى آل أبي بكر وعمر أبداً، ولا إلى بني أمية أبداً، ولا في ولد طلحة والزبير أبداً، وذلك أنهم نبذوا القرآن، وأبطلوا السنن، وعطلوا الأحكام، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): القرآن هدى من الضلالة، وتبيانٌ من العمى، واستقالةٌ من العثرة، ونورٌ من الظلمة، وضياءٌ من الأحداث، وعصمةٌ من الهلكة، ورشدٌ من الغواية، وبيانٌ من الفتن، وبلاغٌ من الدنيا إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم، وما عدل أحدٌ عن القرآن إلّا إلى النار»(٢٦).
د - التوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء بتثبيت القلب على الإيمان، وعدم الانحراف في العقيدة عند وقوع الفتن، فعن عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «سَتُصِيبُكُمْ شُبْهَةٌ فَتَبْقَونَ بِلا عَلَمٍ يُرَى، وَلا إِمَامِ هُدَى، وَلا يَنْجُو مِنْها إِلّا مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ الغَرِيقِ»، قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال: «يَقُولُ: (يَا اللهُ، يَا رَحْمَنُ، يَا رَحِيمُ، يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)»، فقلت: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلبي على دينك، قال: «إِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) مُقَلِّبُ القُلُوبِ وَالأَبْصَارِ، وَلَكِنْ قُلْ كَمَا أَقُولُ لَكَ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»(٢٧).
وعن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إِنَّ لِلْغُلامِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ»، قال: قلت: ولمَ؟ قال: «يَخَافُ»، وأومأ إلى بطنه، ثم قال: «يَا زُرَارَةُ، وَهُوَ المُنْتَظَرُ، وَهُوَ الذِي يُشَكُّ فِي وِلادَتِهِ، مِنْهُمْ مَن يَقُولُ: مَاتَ أَبُوهُ بِلا خَلَفٍ، وَمِنْهُم مَنْ يَقُولُ: حَمْلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ بِسَنَتَيْن وَهُوَ المُنْتَظَرُ، غَيْرَ أَنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ الشِّيعَةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦) الكافي: ٢/ ٦٠٠ - ٦٠١.
(٢٧) كمال الدين: ١/ ٣٨٠.

↑صفحة ١٨٠↑

المُبْطِلُونَ يَا زُرَارَةُ». قال: قلت: جُعلت فداك إن أدركت ذلك الزمان أي شيء أعمل؟ قال: «يَا زُرارَةُ إِذا أَدْرَكْتَ هَذَا الزَّمَانَ فَادْعُ بِهذَا الدُّعَاءِ: (اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي)»... الحديث(٢٨).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨) الكافي: ١/ ٣٣٧.

↑صفحة ١٨١↑

العدد ١٨/ ذي الحجة / ١٤٤٦ هـ : ٢٠٢٥/٠٥/٣١ : ١٩ : ٠
: علاء عبد علي مخيط السعيدي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.