نقد ومراجعة شبهات الدكتور ناصر القفاري حول فكرة المهدوية (١)
نقد ومراجعة شبهات الدكتور ناصر القفاري
حول فكرة المهدوية(١)
الناقد: نصرت الله آيتي
المترجم: علاء الزبيدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) هذه الترجمة لهذا المقال اقتضت أن نقوم باختصار بعض المطالب لاقتضاء النشر ذلك.
↑صفحة ٠↑
تمهيد:...................٢٣٩
مقدمة:...................٢٣٩
الشبهة الأولى: [عقيدة الغيبة عند فِرَق الشيعة]:...................٢٤٤
نقد ومراجعة:...................٢٤٦
الشبهة الثانية: [نشأة فكرة الغيبة]:...................٢٤٩
نقد ومراجعة:...................٢٥٠
كلام الشيخ المفيد:...................٢٥١
كلام الشيخ الصدوق:...................٢٥١
كلام الذهبي:...................٢٥١
كلام ابن حزم:...................٢٥٢
القضية الثانية: قضيّة الحيرة في بدء الغيبة الكبرى:...................٢٥٢
نقد ومراجعة:...................٢٥٤
الشبهة الثالثة: [أسباب القول بالغيبة]:...................٢٥٨
نقد ومراجعة:...................٢٥٩
الشبهة الرابعة: [دعوى سعي الشيعة إلى خلق كيان سياسي]:...................٢٦١
نقد ومراجعة:...................٢٦٢
الشبهة الخامسة: [دعوى وجود دور للديانات السابقة في تأسيس المهدوية]:...................٢٦٣
نقد ومراجعة:...................٢٦٣
الشبهة السادسة: [واضح مبدأ الغيبة]:...................٢٦٦
نقد ومراجعة:...................٢٦٧
الشبهة السابعة: [دعوى النزاع على السفارة زمن السفير الأوَّل]:...................٢٦٨
الشبهة الثامنة: [دعوى إخراج التوقيعات الكاذبة من أجل الأموال]:...................٢٦٩
الشبهة التاسعة: [دعوى كثرة المخالفين في سفارة محمد بن عثمان]:...................٢٦٩
الشبهة العاشرة: [دعوى وكالة محمد بن علي بن بلال]:...................٢٧١
الشبهة الحادية عشر: [دعوى التزاحم على البابية من أجل الأموال]:...................٢٧١
الشبهة الثانية عشر: [دعوى إخراج توقيعات اللعن على من لا يدفع الأموال]:...................٢٧٤
الشبهة الثالثة عشر: [دعوى سيادة لغة المال على التوقيعات]:...................٢٧٥
الشبهة الرابعة عشر: [دعوى النزاع في تعين السفير الثالث]:...................٢٧٦
الشبهة الخامسة عشر: [دعوى أنَّه السفارة بالاتفاق مع بعض المدَّعين]:...................٢٧٧
الشبهة السادسة عشر: [دعوى انتهاء وعود الشيعة بالظهور]:...................٢٧٩
↑صفحة ٠↑
تمهيد:
أحد الكتب المفصَّلة والمهمة التي كُتبت في السنوات الأخيرة لنقد معتقدات الشيعة هو كتاب (أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية - عرض ونقد) الذي ألّفه الدكتور ناصر القفاري.
في هذا الكتاب، هوجمت جميع معتقدات الشيعة، بما في ذلك فكرة المهدويّة، وسنسعى للإجابة عن شبهات هذا الكتاب المتعلّقة بفكرة المهدوية.
وسنخصص الكلام في هذا المقال عن الإجابة عن سبع عشرة شبهة تتعلق بتاريخ نشوء فكرة الغيبة، ودوافع تكوّن هذه الفكرة، ومؤسّسيها.
مقدمة:
كتاب (أصول مذهب الشيعة) قد حصل على مكانة متميزة من حيث تنوع مباحثه وحجم الشبهات التي يحتويها، وما يلي هو نقد الفصل الرابع من هذا الكتاب بعنوان (المهدية والغيبة)، الذي خصص له ١١٠ صفحات من الكتاب، حيث حاول نقد فكرة المهدية وفق القراءة الشيعية.
وقبل الدخول في نقد ومراجعة كلمات الكاتب، فمن المناسب تقديم
↑صفحة ٢٣٩↑
بعض الملاحظات حول الأسلوب الذي اتبعه في كتابه (أصول مذهب الشيعة):
لقد طرح السيد القفاري في مقدمة كتابه ثلاث ادِّعاءات كبيرة.
أوّلها: أنه كان في مقام بيان الحقيقة، وقد أظهر الأمانة في نقل آراء العلماء الشيعة، قال: (ولا شك بأن بيان حال الفرق الخارجة عن الجماعة... ضروري لرفع الالتباس وبيان الحق للناس... والموضوعية الصادقة أن تنقل من كتبهم بأمانة... وأن تعدل في الحكم).
الادِّعاء الثاني: هو الإبداع، وهو أنه قد توصل إلى نقاط حول اعتقادات الشيعة لم يسبق لأحد أن توصّل إليها من قبل: (أماطت هذه الدراسة اللثام عن عقائد لم يطرقها أحد من قبل)(٢).
أمّا الادِّعاء الثالث: فهو أنه في كتابه قد تجنب ذكر الروايات الشاذة والضعيفة التي لا تعبّر عن حقيقة مذهب التشيع، واستند فقط إلى الروايات المستفيضة والمعتبرة، قال: (ولم أذكر من عقائدهم في هذه الرسالة إلَّا ما استفاضت أخبارهم به وأقره شيوخهم... كل ذلك حتَّى لا يقال بأننا نتجه إلى بعض رواياتهم الشاذة وأخبارهم الضعيفة التي لا تعبّر عن حقيقة المذهب فنأخذ بها)(٣).
نقول: فيما يتعلق بالادّعاء الأول، وأنَّه لم يكن لديه همٌّ سوى بيان الحقيقة وإيضاحها، وأنه قد حافظ على الأمانة في نقل اعتقادات الشيعة والحكم عليها بالعدل، يجب أن يقال: من المؤسف أن هذه الكلمات الجميلة ضُحِّي بها دائماً على مذبح الحب والبغض المفرط، وقد حال التعصب الأعمى دون رؤية وفهم الحقائق، ومنع الالتزام بالمبادئ الأخلاقية في مسار اكتشاف الحقيقة، وما أقبح وأبشع أن يقوم بهذا العمل شخص يعدّ نفسه عالماً مسلماً ويدّعي الدفاع عن كتاب الله وسنة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونشر تعاليم الدين الإسلامي النقي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢) أصول مذهب الشيعة: ص٢ و٦.
(٣) السابق: ص١٠.
↑صفحة ٢٤٠↑
بعض الادِّعاءات الكاذبة للقفاري التي تثير شكوكاً جدّية حول صحّة ادّعائه الأول هي كما يلي:
١ - لم يكن أقارب الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وحتَّى أقربهم إليه على علم بوجوده، بل كانوا ينكرون وجوده.
٢ - لم يرَ أي من الشيعة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) باستثناء نوابه(٤).
٣ - مصدر اعتقاد الشيعة بوجود وغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو عثمان بن سعيد(٥).
٤ - كان نواب الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يدَّعون العصمة(٦).
٥ - لم يكن على علم بوجود وغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سوى السيدة حكيمة(٧).
و...
وادَّعى أيضاً أنه قد توصّل إلى نقاط لم يتوصل إليها أحد قبله في ما يتعلق بمعتقدات الشيعة منها:
١ - عدم اطلاع أي من المقربين من الإمام العسكري (عليه السلام) والشيعة على وجود وولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(٨).
٢ - ابتكار فكرة الغيبة من قبل العلماء الشيعة بسبب الإحباط من تشكيل حكومة شيعية(٩).
٣ - جذور فكرة الغيبة في الديانة المجوسية(١٠).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤) السابق.
(٥) السابق: ص١٠١١.
(٦) السابق: ص١٠١٦.
(٧) السابق: ص١٠٢٤.
(٨) السابق: ص٥٩-٨٠.
(٩) أحمد أمين - ضحى الإسلام: ص٢٤١.
(١٠) گلدزيهر - العقيدة والشريعة في الإسلام: ص٢١٥.
↑صفحة ٢٤١↑
٤ - الاعتقاد بغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في السرداب(١١).
و...
ذلك مثال من الشبهات التي طرحت في بعض الأحيان منذ مئات السنين من قبل المخالفين، وقد أجاب علماء الشيعة عنها، في حين أن السيد القفاري ودون أي إشارة إلى هذه الإجابات، عدّها شبهات جديدة لم تخطر على بال أحد.
فيما يتعلق بالادعاء الثالث للسيد القفاري، يجب أن يُقال: إنه على الرغم من أنه يدعي أنه استند إلى روايات معتبرة، إلَّا أن القارئ الذي يراجع الكتاب لا يجد أي أثر للنقاشات السندية، لأن الكاتب لم يتعرض في أي مكان من كتابه لإثبات اعتبار الروايات بناءً على آراء العلماء الشيعة. ومع ذلك، لا يُفهم كيف ادَّعى أنَّ الروايات التي استند إليها معتبرة من وجهة نظر العلماء الشيعة.
الدليل الوحيد للقفاري الذي قدّمه لدعم ادِّعاء اعتبار الروايات هو وجودها في المصادر المهمّة للشيعة، والتي أشاد العلماء الشيعة بها. أي إنَّه وفقاً للسيد القفاري، عندما توجد رواية في أحد المصادر الشيعية التي يشيد العلماء الشيعة بها، فإن تلك الرواية ستكون وبحسب اعترافهم معتبرة. ولهذا السبب، عندما يعدّد القفاري في مقدمة كتابه المصادر الشيعية التي استند إليها، يذكر أيضاً أوصاف العلماء الشيعة لها.
الخطأ الذي وقع فيه هو أن تجليل كتاب ما يُعدّ اعتقاداً بصحة جميع رواياته، في حين أنَّه لا يوجد أي تلازم بين الإشادة بكتاب ما واعتبار جميع رواياته، وذلك لأن هذا التجليل يمكن أن يكون بسبب عظمة مقام الكاتب العلمي، وإحاطته بموضوع الكتاب، ودقته في اختيار الروايات، ووصوله إلى المصادر الأولية والمراجع القديمة، وتنظيمه المناسب، وشمولية الكتاب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١) العلامة الأميني - الغدير: ج٣، ص٣٠٨.
↑صفحة ٢٤٢↑
وغيرها. لذلك، لا يمكن استنتاج أن العلماء الشيعة، من خلال تجليلهم لكتاب ما، يعتقدون بصحة جميع روايات ذلك الكتاب.
بناءً على ما تقدّم، يتضح الخطأ الفاحش الآخر للشيخ القفاري، وهو أنَّه في كتابه كان يسعى لنقد معتقدات مذهب الشيعة. بل إنّ عنوان كتابه يوحي بأنه لم يكن في صدد نقد جميع معتقدات الشيعة، بل نقد الأسس والمعتقدات الأساسية لمذهب الشيعة (أصول مذهب الشيعة). من الواضح أنه يمكن نسبة عقيدة معينة إلى دين أو مذهب ما فقط إذا كانت تلك العقيدة من المعتقدات التي يتفق عليها جميع المؤمنين بذلك الدين أو المذهب، أو إذا كان هناك معارضون فعددهم يكون ضئيلاً.
لذلك، يجب على القفاري لإثبات أنَّ ما ورد في كتابه هو معتقدات الشيعة أن يثبت أنَّ جميع الشيعة أو غالبية قريبة من الإجماع يتَّفقون على ما ذكره، بينما هو في بعض الأحيان، ولمجرد وجود رواية في أحد المصادر غير المهمة للشيعة، والتي تعكس في النهاية اعتقاد كاتب ذلك الكتاب بتلك الرواية، ينسب الإيمان بتلك الرواية إلى جميع علماء الشيعة ويعدّها من معتقدات مذهب الشيعة.
على سبيل المثال، مسألة كون والدة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ابنة قيصر الروم أم لا، أو ما إذا كانت السيدة حكيمة قد لاحظت علامات الحمل في السيدة نرجس أم لا، أو ما إذا كانت السيدة نرجس (عليها السلام) على علم بحملها أم لا، أو ما إذا كان اسمها سوسن أو شيئاً آخر، أو ما إذا كان الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قد نطق بعد ولادته بـ«الحمد لله رب العالمين» أم بذكرٍ آخر، أو ما إذا كان نموه طبيعياً أم غير طبيعي، والعشرات من هذه المسائل هي أشياء لا يهم إثباتها كثيراً، ولا بطلانها يهدم شيئاً. في حين أن أجزاء كبيرة من نقد السيد القفاري موجهة إلى هذه المسائل الهامشية، وقد سعى إلى إظهار أساس مذهب التشيع ضعيفاً في نظر القارئ من خلال الإكثار من هذا النوع من الإشكالات.
↑صفحة ٢٤٣↑
مما تقدّم يمكن إضافة هذه النقطة، وهو أنه للأسف، قد انتهك في كتابه حرمة القلم ولم يحافظ على جانب الأدب، بذكره الكلمات القبيحة والشتائم التي وردت فيه. ولا أعلم كيف يسمح مسلم ذو فكر حر، يهتم بالحقائق، ويأخذ القلم بيده بدافع الواجب، أن يستخدم كلمات فاحشة وقبيحة بهذا الشكل لإهانة الطرف الآخر.
ما سبق هو بعض المراجعات العامة والمنهجية على كتابة السيد القفاري، وسنشير إلى نصوص كتابه - الفصل الرابع - بترتيب ذكرها وملاحظاتها.
الشبهة الأولى: [عقيدة الغيبة عند فِرَق الشيعة]:
يقول القفاري: (فكرة الإيمان بالإمام الخفي أو الغائب توجد لدى معظم فرق الشيعة، حيث تعتقد في إمامها بعد موته أنَّه لم يمت، وتقول بخلوده، واختفائه عن الناس، وعودته إلى الظهور في المستقبل مهدياً، ولا تختلف هذه الفرق إلا في تحديد الإمام الذي قدرت له العودة، كما تختلف في تحديد الأئمة وأعيانهم والتي يعتبر الإمام الغائب واحداً منهم.
وتعتبر السبئية - كما يقول القمي، والنوبختي، والشهرستاني وغيرهم - أول فرقة قالت بالوقف على علي وغيبته، حيث زعمت (أنَّ علياً لم يقتل ولم يمت، ولا يقتل ولا يموت حتَّى يسوق العرب بعصاه، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً).
ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي علي بالمدائن قال للذي نعاه: (كذبت، لو جئنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل، ولا يموت حتَّى يملك الأرض) وظلت تنتظر عودته من غيبته، ثم انتقلت هذه (الفكرة) من السبئية إلى بعض فرق الكيسانية كالكربية حيث قالت لما مات محمد بن الحنفية - وهو الذي تدَّعي أنَّه إمامها -: (إنَّه حي لم يمت وهو في جبل رضوى بين مكة والمدينة عن يمينه أسد وعن
↑صفحة ٢٤٤↑
يساره نمر موكلان به يحفظانه إلى أوان خروجه وقيامه)، وقالوا: (إنَّه المهدي المنتظر، وزعموا أنَّه سيغيب عنهم سبعين عاماً في جبل رضوى ثم يظهر فيقيم لهم الملك، ويقتل لهم الجبابرة من بني أمية)، فلما مضت سبعون سنة ولم ينالوا من أمانيهم شيئاً حاول بعض شعرائهم توطين أصحابه على هذه العقيدة، وأن يرضوا بالانتظار ولو غاب مهديهم مدة عمر نوح (عليه السلام).
ثم شاع التوقف على الإمام وانتظار عودته مهدياً بعد ذلك بين فرق الشيعة.. فبعد وفاة كل إمام من آل البيت تظهر فرقة من أتباعه تدعي فيه هذه الدعوى... وتنتظر عودته، وتختلف فيما بينها اختلافاً شديداً في تحديد الإمام الذي وقفت عليه وقدرت له العودة - في زعمهم - ولذلك قال السمعاني: (ثم إنهم في انتظارهم الإمام الذي انتظروه مختلفون اختلافاً يلوح عليه حمق بليغ).
وحتَّى بعض فرق الزيدية وهي الجارودية تاهت في وهم هذا الانتظار للإمام الذي قد مات، مع اختلاف فروع هذه الطائفة في تحديد الإمام المنتظر، كما نقل ذلك الأشعري والبغدادي والشهرستاني وغيرهم. ولذلك فإنه لا صحة لما قاله بعضهم من أن الزيدية كلها تنكر هذا الاتجاه كما قاله أحمد أمين، وأشار إليه جولد سيهر.
هذه عقيدة الغيبة عند فرق الشيعة، ارتبطت بأفراد من أهل البيت معروفين وجدوا في التاريخ فعلاً وعاشوا حياتهم كسائر الناس، فلما ماتوا ادعت فيهم هذه الفرق تلك الدعوى، حيث لم تصدق بموتهم، وزعمت أنهم غابوا، وسيعودون للظهور مرة أخرى، أمّا هذه الفكرة عند الاثني عشرية فتختلف من حيث إنَّها ارتبطت عندهم (بشخصية خيالية) لا وجود لها عند أكثر فرق الشيعة المعاصرة لظهور هذه (الدعوى) وهي عند أصحابها شخصية رمزية لم يرها الناس، ولم يعرفوها، ولا يعلمون مكانها، غابت - كما
↑صفحة ٢٤٥↑
يدعون - بعد ولادتها، ولم يظهر حملها، وأحيطت ولادتها بسياج من السرية والكتمان، بل إن عائلتها، ووكيلها وأقرب الناس إليها لم يعلموا بأمر هذا الحمل وذلك المولود، وكانوا له منكرين، بل لم يظهر للشيعة التي تدعيه إلَّا من خلال نواب يدعون الصلة به.
هذه الشخصية هي شخصية المهدي المنتظر عندهم، ويشكّل الإيمان بها عند الاثني عشريّة الأصل الذي ينبني عليه مذهبهم، والقاعدة التي تقوم عليها بنية التّشيّع عندهم؛ إذ بعد انتهاء وجود أئمّة الشّيعة بوفاة الحسن العسكري أصبح الإيمان بغيبة ابنه المزعوم هو المحور الذي تدور عليه عقائدهم، والأساس الذي يمسك بنيان الشّيعة من الانهيار. ولكن كيف ومتى بدأت هذه الفكرة عند الاثني عشرية؟)(١٢).
نقد ومراجعة:
يمكن تلخيص الكلمات السابقة في هذه العبارة: مؤسس فكرة الغيبة هو عبد الله بن سبأ، وقد انتقلت هذه الفكرة منه إلى بقية الفرق الشيعية وأخيراً إلى الإمامية الاثني عشرية. بناءً لذلك، فإن فكرة الغيبة هي فكرة مصطنعة وتفتقر لأي نوع من الأسس الحقيقية.
بغض النظر عما إذا كان هناك تاريخياً شخصية باسم عبد الله بن سبأ، أو أن هذه الشخصية من اختراعات بعض الكتاب(١٣)، فيجب أن نذكر أنَّ القفاري وقع في خطأ كبير في أقواله، ولم يترك فرقاً بين أصل فكرة الغيبة وبين تطبيقها على نموذج خارجي.
ما أثبته استناداً إلى الكتب الشيعية ليس سوى تطبيق فكرة الغيبة على أنموذج خاص من قبل الفرقة السبئية، لأنه في كتاب (فرق الشيعة)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢) أصول مذهب الشيعة: ص١٠٠٠-١٠٠٣.
(١٣) انظر: مرتضى العسكري، عبد الله بن سبأ.
↑صفحة ٢٤٦↑
و(المقالات والفرق) لم يذكر أكثر من ذلك حول أول فرقة تبنت فكرة الغيبة وتطبيقها على مثال محدد، والأصل أن الكتب المذكورة لا تتعلق بأصل الفكرة عند الطائفة السبئية، بل في كل أحاديثهم عن السبئية وطوائفهم ومعتقداتهم كتبوا: (فرقة منهم قالت أنّ علياً لم يُقتل ولم يمت...)(١٤) أي فرقة منهم على هذا، ومن الواضح أن هذه العبارة لا تعني شيئاً سوى أن السبئية كانت أول فرقة اعتقدت بغيبة الإمام علي (عليه السلام).
وعليه فلا يوجد تلازم بين كون السبئية أول فرقة اعتقدت بغيبة الإمام علي (عليه السلام)، وبين أنه لم يكن هناك أصل لفكرة الغيبة قبل ذلك، بل يمكن في الوقت نفسه أن نؤمن بوجود أصل فكرة الغيبة قبل ظهور فرقة السبئية، ومع ذلك، يمكن أن نعدّ السبئية أول مجموعة حدّدت مصداقاً لهذه الفكرة وأخطأت في تطبيقها على الإمام علي (عليه السلام).
ومن المؤكَّد أنَّ هناك اختلافاً بين الكُتّاب الشيعة والسُنَّة في هذا الصدد، حيث لم يذكر الكُتّاب الشيعة مثل النوبختي والأشعري شيئاً سوى أنَّ أول فرقة طبقت فكرة الغيبة على الإمام علي (عليه السلام) هي السبئية. بينما الكُتّاب السُنَّة مثل الشهرستاني أرادوا أن يستنتجوا مما قيل سابقاً أنَّ أصل فكرة الغيبة قد طُرحت لأول مرة من قبل السبئية(١٥)، وبالطبع لا يُتَوَقَّعُ من هؤلاء سوى ذلك.
إنَّ ما يؤكد النقطة المذكورة سابقاً ويُظهر أنّ مؤسس فكرة الغيبة لم يكن عبد الله بن سبأ، وأن هذه الفكرة كانت مطروحة بين المسلمين قبل ذلك عند رحيل النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للإسلام وهو ما يُنقل عن الطبري وبعض المؤرخين المعروفين من السنة والشيعة، حيث قال: (إن رجالاً من المنافقين يزعمون أنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤) النوبختي - فرق الشيعة: ص٤٠.
(١٥) الشهرستاني - الملل والنحل: ج١، ص١٧٤.
↑صفحة ٢٤٧↑
رسول الله قد مات، وإن رسول الله ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات)(١٦)، واليعقوبي الذي يسبق الطبري من حيث الزمن، نقل كلام عمر بهذه الطريقة: (والله ما مات رسول الله ولا يموت، وإنَّما تغيب كما غاب موسى بن عمران أربعين ليلة ثم يعود، والله ليقطعن أيدي قوم وأرجلهم..)(١٧).
بناءً على التقارير التاريخية، رجع أبو بكر وعمر عن هذا القول، لكن أصل طرح مسألة غيبة النبي الكريم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قبل عمر لا يمكن أن يكون له تفسير سوى رسوخ فكرة الغيبة في ذهنه، ولا شك أنَّ رسوخ هذه الفكرة في ذهنه لم يكن من تلقاء نفسه، بل كان تأثراً بكلمات النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم). ولا يمكن العثور على مصدر آخر لذلك، لأنه من جهة، ليس من المعقول أن ينكر عمر بعد مواجهة رحيل النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من تلقاء نفسه ودون سبب رحيل ذلك الشخص ويتحدث عن غيبته.
وسؤالنا لجناب القفاري هو أنه في صدد إثبات ماذا؟ إذا كان قصده من نقل عبارة أصحاب الفرق هو أن السبئية هم أول من اعتقدوا بغيبة الإمام علي، فهذا قول حق، ولكن هذا لا ينتج أن مؤسس فكرة الغيبة هو عبد الله بن سبأ. ولكن إذا كان يدعي أن نشوء أصل فكرة الغيبة يعود إلى الفرقة السبئية، فهذا أمر لا يمكن إثباته من خلال أقوال الكتاب الشيعة، ولن يستطيع القفاري أن ينتقد عقائد الشيعة من هذه الناحية استناداً إلى المصادر الشيعية.
إضافةً على ما سبق، توجد في كلمات الكاتب نقطتان أخريتان:
الأولى: هي أنه كان هناك اختلاف شديد بين الشيعة حول تحديد الإمام الغائب، ويبدو في نظره أنَّ هذا دليل على بطلان فكرة الغيبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦) تاريخ الطبري: ج٢، ص٤٤٢؛ ابن عبد البر - الدرر: ص٢٧٢؛ صحيح البخاري: ج٤، ص١٩٤.
(١٧) تاريخ اليعقوبي: ج٢، ص١١٤.
↑صفحة ٢٤٨↑
والثانية: هي أن المهدي المنتظر لدى الشيعة الاثني عشرية هو شخصية خيالية لم يرها أو يعرفها أحد، وولادته كانت سرية، وحتَّى أقرب المقربين منه أنكروه، ولم يُعرف أمره إلَّا من خلال النواب الذين ادّعوا الاتصال به. وسنجيب قريباً بالتفصيل عن الادِّعاءين المذكورين.
الشبهة الثانية: [نشأة فكرة الغيبة]:
قال: (نشأة فكرة الغيبة عند الشيعة الاثني عشرية وتطوّرها:
لابد في الحديث عن النشأة أن نتناول حال الشيعة بعد وفاة الحسن لعلاقته الوثيقة بنشأة هذه الفكرة. إذ بعد وفاة الحسن - إمامهم الحادي عشر - سنة (٢٦٠هـ): (لم ير له خلف، ولم يعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمّه). كما تعترف بذلك كتب الشيعة نفسها. وبسبب ذلك اضطرب أمر الشيعة، وتفرّق جمعهم، لأنَّهم أصبحوا بلا إمام، ولا دين عندهم بدون إمام، لأنّه هو الحجّة على أهل الأرض. وحتَّى كتاب الله سبحانه ليس حجة عندهم إلَّا به - كما سلف -، وبالإمام بقاء الكون، إذ «لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت»، وهو أمان النّاس «ولو أنَّ الإمام رفع من الأرض ساعة لمَاجَتْ بأهلها كما يموج البحر بأهله». ولكن الإمام مات بلا عقب، وبقيت الأرض بلا إمام، ولم يحدث شيء من هذه الكوارث.. فتحيَّرت الشيعة واختلفت في أعظم أمر عندها وهو تعيين الإمام، فافترقت إلى أربع عشرة فرقة كما يقول النوبختي، أو خمس عشرة فرقة كما ينقل القمّي، وهما من الاثني عشريّة. وممّن عاصر أحداث الاختلاف، إذ هما من القرن الثالث، فمعلوماتهما مهمة في تصوير ما آل إليه أمر الشيعة بعد الحسن العسكري، ومن بعدهما زادت الفرقة واتّسع الاختلاف، حيث يذكر المسعودي الشّيعي (المتوفّى سنة ٣٤٦هـ) ما بلغه اختلاف شيعة الحسن بعد وفاته، وأنَّه وصل إلى عشرين فرقة، فما بالك بما بعده.
↑صفحة ٢٤٩↑
وقد ذهبت هذه الفرق مذاهب شتَّى في أمر الإمامة، فمنهم من قال: (... هذه بعض ملامح الخلاف الذي دبّ بين الشيعة بعد وفاة الحسن)(١٨).
نقد ومراجعة:
السيد القفاري في كلامه المتقدم كان يسعى لإيصال مطلبين:
المطلب الأول: هو أنَّه بالإضافة إلى أنَّ أصل الاختلاف بين الشيعة بعد شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وانشعابهم إلى ١٤ دليل على بطلان اعتقادهم، فإنَّ إنكار وجود وغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من قبل الأغلبية من الشيعة الذين عاشوا في تلك الفترة هو دليل آخر على بطلان وجهة نظر الشيعة الاثني عشرية.
الثانية: قضية الحيرة التي أصابت الشيعة بسبب انقطاع السفارة الخاصّة وبدء الغيبة الكبرى. وقد أشار إليها بعبارات صريحة، النعماني وعلي بن بابويه وابنه محمد بن علي بن بابويه والطوسي والشيخ المفيد، غير أنَّ الأستاذ الكاتب لوى عنق هذه الكلمات زوراً وبهتاناً ليجعلها تصب في القضية الأولى، تضليلاً للقارئ، وزيادة في التعتيم على الحقيقة. وفيما يلي خلاصة عن هاتين القضيّتين.
القضية الأولى: قضية دعوى تفرق أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)...).
- بصرف النظر عن أنَّ ما ورد في المصادر الشيعية وهو تقسيم الشيعة إلى ١٤ فرقة، فإنَّ الشيعة الاثني عشرية كانوا واحدة من ١٤ فرقة، وهذا لا يعني بالضرورة أنَّ عدد الشيعة الاثني عشرية كان ربع عدد الشيعة، بل من الممكن أنَّه رغم كون الشيعة الاثني عشرية فرقة من أربع عشرة فرقة، إلَّا أنَّهم كانوا يشكلون من حيث الكمية غالبية الشيعة.
بناءً عليه، فإنَّ ادِّعاء القفاري الذي سيتحدَّث في المناقشات القادمة بشكل متكرر عن إنكار وجود ابن الإمام حسن العسكري (عليه السلام) من قبل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨) أصول مذهب الشيعة: ص١٠٠٤-١٠٠٧.
↑صفحة ٢٥٠↑
غالبية الشيعة، وينسب هذا الأمر إلى الكتب القديمة الشيعية، هو من الأساس باطل. بغض النظر عما قيل، فإنَّ بعض المصادر القديمة الشيعية والسنيَّة تصرِّح بأنَّ الشيعة الاثني عشرية الذين كانوا يؤمنون بوجود وغيبة الإمام المهدي كانوا يشكلون من حيث الكمية غالبية الشيعة. ووفقاً لهذه المصادر، فإنَّ ١٣ فرقة أخرى، رغم تنوعها، كان لديها عدد محدود من المؤيدين، وبعض تلك المصادر القديمة من الخاصة والعامة هي كما يلي:
كلام الشيخ المفيد:
قال الشيخ المفيد (ت ٤١٣) في كتابه (الفصول المختارة): (ولما توفي أبو محمد الحسن بن علي بن محمد (عليه السلام) افترق أصحابه بعده على ما حكاه أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي بأربع عشرة فرقة، فقال الجمهور منهم بإمامة القائم المنتظر (عليه السلام)، وأثبتوا ولادته، وصحّحوا النصّ عليه، وقالوا هو سمي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومهدي الأنام...).
كلام الشيخ الصدوق:
وقد أشار إلى هذه الحقيقة أيضاً الشيخ الصدوق في كتابه إكمال الدين ص ٤٥، حيث قال: (كلّ من سألنا من المخالفين عن القائم (عليه السلام)، لم يخل من أن يكون قائلاً بإمامة الأئمة الأحد عشر من آبائه (عليهم السلام) أو غير قائل بإمامتهم.
فإن كان قائلاً بإمامتهم لزمه القول بإمامة الإمام الثاني عشر، لنصوص آبائه الأئمة (عليهم السلام) عليه باسمه ونسبه، وإجماع شيعتهم على القول بإمامته وإنه القائم الذي يظهر بعد غيبة طويلة فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً).
كلام الذهبي:
قال الذهبي (ت٧٤٨) في سير أعلام النبلاء ج ١٣ /١١٩ - ١٢٢: (نقل
↑صفحة ٢٥١↑
أبو محمد بن حزم أن الحسن (بن علي بن محمد) مات عن غير عقب). قال: (وثبت جمهور الرافضة على أنَّ للحسن ابناً أخفاه).
كلام ابن حزم:
قال ابن حزم (٤٨٤-٥٤٨هـ) في كتابه (الفصل في الملل) ج ٤/٧٧: (وقالت الروافض: الإمامة في علي وحده بالنص عليه... (إلى أن قال): ثم الحسن بن علي (العسكري). ثم مات الحسن غير معقب فافترقوا فرقاً وثبت جمهورهم على أنّه ولد للحسن بن علي ولد فأخفاه...).
القضية الثانية(١٩): قضيّة الحيرة في بدء الغيبة الكبرى:
مما لا شك فيه أنَّ قسماً كبيراً من الشيعة عاشوا حيرة شاملة حين بلغهم خبر انقطاع النيابة الخاصة بعد وفاة النائب الرابع، حيث لا يوجد مرجع معيّن من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ينهض بأمورهم، مع كثرة الشبهات التي أثارها الزيدية والمعتزلة وغيرهم، وتصدّى علماء الشيعة في تلك الفترة لرفع الحيرة التي نشأت بسبب ذلك، وكتبوا كتباً خالدة منها: كتاب (الغيبة) لمحمد بن إبراهيم النعماني (ألفه بين سنة ٣٣٣ هجرية وسنة ٣٤٢هـ)، و(الإمامة والتبصرة من الحيرة) لعلي بن بابويه (ت ٣٢٩)، و(إكمال الدين وإتمام النعمة في إثبات الغيبة وكشف الحيرة) لمحمد بن علي بن بابويه (ت ٣٨٦)، و(الغيبة) للشيخ الطوسي (ت ٤٦٠)، وغيرها.
قال علي بن بابويه في الامامة والتبصرة ص٩: (رأيت كثيراً ممن صح عقده، وثبتت على دين الله وطأته، وظهرت في الله خشيته، قد أحادته الغيبة، وطال عليه الأمد حتَّى دخلته الوحشة،... فجمعت أخباراً تكشف الحيرة...).
وإذا كان كُتّاب كبار - مثل الشيخ النعماني والشيخ الصدوق - قد تحدّثوا عن حيرة الشيعة، فإنَّ الحيرة ليست بالضرورة تعني الإنكار، بل هي نتيجة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩) والكلام للسيد البدري.
↑صفحة ٢٥٢↑
لوجود شبهات كانت في أذهان الشيعة، الذين على الرغم من إيمانهم بوجود وغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، كانت لديهم أسئلة وإبهامات حول هذا الموضوع. ومع وجود هذه الأسئلة، لم يخرجوا أبداً من دائرة الإيمان بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وشيئاً فشيئاً، وبفضل جهود علماء الشيعة، قُدِّمت إجابات مناسبة لأسئلتهم، وثبت إيمانهم بوجود وغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بشكل راسخ ومستقر.
ما يمكن تلخيصه كأول رد على الشبهة الثانية للقفاري في هذه الجملة:
أولاً: باعتراف الكتّاب الكبار من الشيعة والسنّة، ورغم الاختلاف الذي حدث بين أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فإنَّ الأغلبية من الشيعة كانت تؤمن بوجود وغيبة ابن ذلك الإمام، رغم وجود تساؤلات وغموض حول هذا الأمر، والتي تم الردّ عليها بجهود العلماء الشيعة. ومن ثَمّ فإنَّ ادِّعاء القفاري بأنَّ الأغلبية من الشيعة أنكرت وجود ابن لذلك الإمام بعد شهادته هو ادِّعاء بلا أساس.
ثانياً: ردّنا الثاني على إشكال القفاري، هو أننا نفترض أنَّ الأغلبية من الشيعة بعد شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنكرت وجود وغيبة الإمام المهدي، فرغم أنَّ هذا الافتراض مخالف للواقع، يبدو أنَّ القفاري يسعى إلى اعتبار إنكار الأغلبية دليلاً على بطلان عقيدة الأقلية. من هذا الاستدلال يمكن أن نستنتج بوضوح أنَّ اعتقاده هو أنَّ الحدود بين الواقع والخيال ومعيار الحق والباطل هو إنكار وقبول الناس. قبول الناس هو دليل على واقع وجود ظاهرة ما، وإنكارهم هو علامة على كونها خيالية.
وهذه دعوى مردودة من جهات عديدة، منها:
أولاً، إذا كانت علامة حقّانية أي اعتقاد هي قبوله من قبل جميع الناس، وإنكار الناس له يكون دليلاً على بطلانه، فإنّ حقانية أي اعتقاد لا يمكن إثباتها.
↑صفحة ٢٥٣↑
ثم هل إنكار حقّانية الدين الإسلامي من خلال أغلبية الناس في العالم المعاصر دليل على بطلان هذا الدين المقدس!
وما أجمل قول ابن قبة الفيلسوف الشيعي الكبير، قاله قبل أكثر من ألف ومئة عام:
(وأمّا قول صاحب الإشهاد عن فِرَق الشيعة بأنَّهم يتخاصمون ويكذّب بعضهم بعضاً، فقد صدق في حكايته، وحال المسلمين في تكفير بعضهم بعضاً هذا الحال، فليقل ما يحب بعد وضوح الأمر، فإنَّ البراهمة تطعن على المسلمين بمثل ما يطعن هو على الشيعة، وهذه حال من ينقض نفسه بما يقوله في خصمه)(٢٠).
وأمّا الأمر الثاني الذي يبدو أنَّ القفاري كان يسعى إلى الإيحاء به، رغم عدم تصريحه بذلك، فهو أنَّ الآراء المختلفة التي ظهرت بين الشيعة بعد استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام) كانت جميعها محاولة للحفاظ على كيان التشيع.
وعلى هذا الأساس، فإنَّ تأسيس فكرة وجود الإمام المهدي الغائب كان رد فعل من العلماء الشيعة الاثني عشرية لمواجهة الحيرة والارتباك الذي ساد المجتمع الشيعي بعد استشهاد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
بعبارة أخرى، لم تكن فكرة وجود ابن غائب للإمام العسكري (عليه السلام) أكثر من كونها تدبيراً للخروج من المشكلات التي كان يعاني منها المجتمع الشيعي.
نقد ومراجعة:
أيضاً في الرد على الشبهة المذكورة يجب أن نقول: إنَّ القفاري بطبيعته ليس بصدد نقد معتقدات الشيعة بناءً على مباني أهل السنة، لأنَّه إذا نظر إليها ككاتب سُنّي وهابي وبنظرة إنكار وشك، فإن جميع معتقدات الشيعة ستظهر له موهومة ومنسوجة في ذهن العلماء الشيعة، فلن يكون هناك أي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠) الصدوق - كمال الدين: ص١٠٨.
↑صفحة ٢٥٤↑
أصل مشترك بيننا وبينه، وستُغلق أبواب الحوار والتفاهم. كما يمكننا توجيه اتّهامات مماثلة له ولمعتقداته.
بناءً على ذلك، يجب أن تكون مباني نقده مقبولة من قبل علماء الشيعة. كما أنَّ القفاري في مقدمة كتابه كان قد التزم بأنه سيستخدم فقط مصادر الشيعة في نقد معتقداتهم، لذا لابد من الرجوع إلى المصادر التي استند إليها، وإلى المصادر المماثلة لتقييم صحة وسقم تحليله.
المصادر القديمة الشيعية التي كان كتّابها معاصرين للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قد أوضحت أنَّه (عليه السلام) كان لديه أصحابه الخاصّون الذين كانت لهم علاقة وثيقة به، وكانوا حاملين لروايات ومعارف ذلك الإمام، وكانت مهمتهم تلقّي الرسائل وطلبات الشيعة وإيصالها إلى الإمام، وكذلك إبلاغ ردود الإمام إلى الناس. هؤلاء الأصحاب الخاصّون بعد استشهاد الإمام اتّفقوا على أنَّ له ابناً غائباً، ولم يحدث بينهم أيّ شك، بل كان جميع الشيعة قبل استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام) متَّفقين على هذا الاعتقاد.
أبو سهل النوبختي، الذي يعد من علماء القرن الثالث، كتب في هذا الصدد ما يلي:
(إنَّ الحسن (عليه السلام) خلف جماعة من ثقاته ممن يروي عنه الحلال والحرام ويؤدي كتب شيعته وأموالهم، ويخرجون الأجوبة، وكانوا بموضع من الستر والعدالة بتعديله إيّاهم في حياته، فلمّا مضى أجمعوا جميعاً على أنَّه قد خلَّف ولداً هو الإمام)(٢١).
وأبو محمد النوبختي، كاتب شيعي آخر عاش في القرن الثالث، أشار أيضاً إلى أن هناك أحاديث كثيرة تتعلق بسرية ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته، كتب: (لقد كان الشيعة الإمامية دائماً على هذا الاعتقاد)(٢٢).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١) إسماعيل بن علي النوبختي - التنبيه في الإمامة، نقلاً عن كمال الدين وتمام النعمة: ص٩٢.
(٢٢) أبو محمد حسن بن موسى نوبختي - فرق الشيعة: ص١١٩.
↑صفحة ٢٥٥↑
وبشهادة الأشعري القمي من أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، كان الاعتقاد بأنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو ابن الإمام العسكري (عليه السلام) ويعيش في غيبة، هو من المعتقدات التي اتّفق عليها الشيعة دائماً، حتَّى قبل استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام)، وقد كتب في هذا الصدد:
(وقد رويت الأخبار الكثيرة الصحيحة أنَّ القائم تخفى على الناس ولادته، ويخمل ذكره، ولا يعرف اسمه، ولا يعلم مكانه، حتَّى يظهر ويؤتم به قبل قيامه. ولابدّ مع هذا الذي ذكرناه ووصفنا استتاره وخفاءه من أن يعلم أمره وثقاته وثقات أبيه وإن قلّوا... فهذه سبيل الإمامة وهذا المنهاج الواضح، والغرض الواجب اللازم الذي لم يزل عليه الإجماع من الشيعة الإمامية المهتدية رحمة الله عليها،... وعلى ذلك كان إجماعنا إلى يوم مضى الحسن بن علي رضوان الله عليه)(٢٣).
بناءً على ذلك، ووفقاً لشهادة الأشعري القمي، لم يكن هناك فقط اتِّفاق بين أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) على وجود ابن غائب لذلك الإمام، بل قبل استشهاد ذلك الإمام، وكانت هذه المسألة محل إجماع بين جميع الشيعة، وإذا حدثت خلافات في هذا الشأن، فإنّها كانت بعد استشهاد الإمام، بسبب تسلط أفراد انتهازيين أو جهلاء.
مع الأخذ في الاعتبار ما تقدّم، يتَّضح أنَّ تحليل السيد القفاري، الذي ادَّعى أنَّ العلماء الشيعة بعد مواجهة حيرة المجتمع الشيعي بسبب فقدان ابن للإمام العسكري (اخترعوا فكرة وجود ابن غائب لذلك الإمام) هو تحليل بلا أساس، ووفقاً لما صرَّح به العلماء الذين عاشوا في ذلك العصر، كانت العقيدة بوجود وغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من المعتقدات المتّفق عليها بين أصحاب الإمام العسكري حتَّى قبل استشهاده (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣) الأشعري القمي - المقالات والفرق: ص١٠٦.
↑صفحة ٢٥٦↑
أمّا الفِرَق الأخرى التي اتَّجهت إلى أفكار غير أفكار الشيعة الإمامية الاثني عشرية، فهو انحراف عن العقيدة السائدة، ومع ذلك، لا يمكن تفسير الاعتقاد بوجود وغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كفكرة مصنوعة للخروج من حيرة وتذبذب المجتمع الشيعي.
هذا هو واقع عصر إمامة الإمام العسكري (عليه السلام)، واستشهاده، وبعده استشهاده، وفقاً لأحاديث علماء الشيعة. فإذا كان السيد القفاري يريد أن يحكم بناءً على أحاديثهم، فلن يصل إلى شيء سوى ما ذكرناه، لكن إذا أراد أن ينكر جميع تلك الحقائق ككاتب وهابي، فلا حديث لنا معه.
وبالنظر إلى ما سبق، اتَّضح أنَّ ادِّعاء القفاري بأنَّ الشيعة ارتبكوا لأنَّهم أصبحوا بلا إمام، في حين أنَّ الدين - عندهم - لا يمكن أن يكون بلا إمام، لأنَّه حجّة على أهل الأرض، هو قول باطل. لأنَّ الغالبية العظمى من الشيعة، ورغم اعتقادهم بأنَّ الدين لا يمكن أن يكون بلا إمام، وأنَّ الإمام حجّة على أهل الأرض، وأنَّه لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها، كانوا على دراية بالعديد من الروايات التي تحدّثت عن غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد وَفَّقوا بين هذين الاعتقادين. وكانوا يعلمون أنَّ الإمام يمكن أن يحمل آثار وبركات وجوده رغم كونه مختفياً. ولهذا السبب، ووفقاً لما جرى، ورغم أنه بعد استشهاد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) حدث خلاف بين الشيعة حول الإمام المهدي، إلَّا أنَّ الغالبية منهم ظلّوا متمسّكين بمذهب الشيعة الاثني عشرية.
وهنا ندقق في نهاية هذا الجزء أيضاً في قول القمي والنوبختي عندما استشهد الإمام العسكري (عليه السلام): (وتوفّى ولم يُرَ له خلَف، ولم يُعرف له ولد ظاهر،...)، فمن خلال التدقيق في هذه التعابير يتَّضح أنَّ ما نفاه الكُتّاب المذكورون ليس وجود ابن للإمام العسكري، بل مشاهدته الظاهرة.
↑صفحة ٢٥٧↑
لذلك، لا يمكن استنتاج عدم وجود ابن للإمام العسكري من اعتراف علماء الشيعة بعدم رؤية ولد الإمام العسكري (عليه السلام).
لذلك ذكروا بعد ذلك بوضوح وجود الإمام المهدي وغيبته، وقد ذكرنا عباراتهم بالتفصيل فيما مرّ.
بناءً على ذلك، ليس من الواضح كيف أنَّ القفاري بعد نقل هذا الكلام لعلماء الشيعة الذي يقول: (لم يُر له خلَف ولم يُعرف له ولد ظاهر) يدّعي بعد ذلك أنَّهم بقوا بلا إمام...، ولكن الإمام مات بلا عقب، وبقيت الأرض بلا إمام و...!
الشبهة الثالثة: [أسباب القول بالغيبة]:
قال تحت عنوان:
(أسباب القول بالغيبة:
ولعلّ القارئ يعجب من ذلك الإصرار الشديد على القول بإمامة أحد من آل البيت،... أو يدَّعون أنَّه حي بعد موته، أو يخترعون ولداً لمن لا عقب له...
إنَّ أهم سبب لهذا الإصرار يتبين من خلال اختلاف هذه الفرق ونزاعها فيما بينها للدفاع عن رأيها والفوز بأكثر قدر من الأتباع، حيث إنَّ كل طائفة تنادي بمهديٍّ لها وتكذّب الأخرى، ومن خلال تلك الخصومة تتسرَّب الحقيقة...
وأنَّ وراء دعوى غيبة الإمام وانتظار رجعته الرغبة في الاستئثار بالأموال، وأنّ هناك فئات منتفعة بدعوى التّشيّع تغرّر بالسُّذّج، وتأخذ أموالهم باسم أنّهم نوّاب الإمام، فإذا ما توفّي الإمام أنكروا موته لتبقى الأموال في أيديهم، ويستمرّ دفع الأموال إليهم باسم خمس الإمام الغائب.
↑صفحة ٢٥٨↑
وهكذا تدور عمليات النهب والسلب... والضحية هم أولئك السذّج المغفلون الذين يدفعون أموالهم إلى من زعموا أنّهم نواب الإمام في بلدان العالم الإسلامي. والذين استمرأوا هذه الغنيمة الباردة فظلوا يذكون في النفوس محبة آل البيت، واستشعار ظلم آل البيت، والحديث عن محن آل البيت، والمطالبة بحق آل البيت... ليفرقوا الأمة، ويتخذوا من تلك الأموال وسيلة لتغذية جمعياتهم السرّية التي تعمل على تقويض كيان الدولة الإسلامية)(٢٤).
نقد ومراجعة:
السيد القفاري في بداية هذا القسم أصرّ على أنّ بعض الشيعة ينكرون رحيل الإمام ويدَّعون حياته وغيبته، وقد اعتبر ذلك عجيباً، ونحن أيضاً نتعجب من عجبه، لأنَّه من المصادفة أن هذا الإصرار نفسه هو أفضل دليل على أنَّ فكرة غيبة المهدي المنتظر كانت راسخة وعميقة ومؤكّدة. لذلك، لا ينبغي التعجُّب من هذا الإصرار، بل يجب أن نتعلَّم منه أنَّ الشيعة عبر التاريخ كانوا يحملون فكرة غيبة المهدي المنتظر من جيل إلى جيل، ولم يكن لديهم أدنى شك في ذلك، وهذه العقيدة كانت واحدة من المعتقدات التي لا تقبل الشك.
لذلك، بالنسبة لفكرة الغيبة، وبعيداً عن الاختلافات التي كانت موجودة في تحديد مصداقها، لا يمكن العثور على مستند سوى أقوال النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام).
ولكن في الرد على ادِّعائه بأنّ طرح فكرة غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كان بدافع الحصول على الثروة، فيجب أن نقول:
أولاً: مع الأخذ في الاعتبار ما تمّ توضيحه في نقد الشبهة السابقة، اتَّضح أنَّ مسألة الاعتقاد بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته حتَّى قبل استشهاد الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤) أصول مذهب الشيعة: ص١٠٠٤-١٠٠٧.
↑صفحة ٢٥٩↑
العسكري (عليه السلام) كان لها حضور بين النخبة، بل وجميع الشيعة، وخلافاً لاعتقاد السيد القفاري، فلم يتطور هذا الاعتقاد بعد استشهاد الإمام العسكري التاريخي (عليه السلام)، لذلك فإن تحليله لسبب تطور فكرة غيبة الإمام المهدي بعد استشهاد أبيه (عليه السلام) يبطل من الأساس، لأنَّ تحليله في هذا الصدد استند إلى ظهور هذا الفكر بعد استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام) وأنَّ نوابه سعوا إلى كسب الثروة والمال، بينما ثبت أنَّ هذا الاعتقاد كان موجوداً حتَّى قبل استشهاد الإمام (عليه السلام)، وبحسب بعض العلماء المعاصرين في ذلك الوقت، كان ذلك من القضايا التي اتّفق عليها الشيعة.
ثانياً: إنّ الاستدلال القائل بأنه باعتراف علماء الشيعة فإنَّ أصل ظهور فكرة غيبة الإمام الكاظم من جانب بعض الشيعة كان بسبب الجشع في كسب الثروة، استدلال ضعيف جداً لدرجة أنه لا يحتاج إلى إجابة، ولكن يمكن الإشارة إلى أنَّه سيبرر للملحد أن يدَّعي أن اعترافات المسلمين بأنَّ أناساً مثل مسيلمة الكذاب ادَّعى زوراً أنَّه نبي بقصد اكتساب الجاه والثروة، هي السبب في ادِّعاء نبيّه أيضاً زوراً أنّه نبي، ولم يكن لديه هدف آخر سوى كسب الجاه والثروة. هل يقبل السيد القفاري هذه الحجة ويخضع لها؟
في الأساس، إذا كان من الممكن فتح الباب أمام مثل هذه التحليلات، وإدخال الأحداث التاريخية نتيجة مؤامرة بعض الانتهازيين والمستفيدين، فلا يمكن استبعاد أي شخصية من مرمى هذه المشاكل.
وعندما يعتبر القفاري أنَّ اتِّفاق مئات العلماء الشيعة على فكرة الغيبة ناتج عن موافقتهم على اكتساب الثروة والسلطة، ويعتبر أنَّ مثل هذا الاتفاق ليس ممكناً فحسب، بل تحقّق أيضاً، ألا يمكن اعتبار الاتفاق بين شخصين - عمر وأبي بكر -، أو عدد محدود من الأشخاص الذين استقروا - في السقيفة - وتعاقدوا، اتفاقاً لاكتساب الثروة والسلطة؟
↑صفحة ٢٦٠↑
ثالثاً: إنَّ الوكالة والنيابة من طرف الإمام المهدي قد أُيّدت من قبل علماء بارزين مثل الأشعري، والنوبختي، وابن قبة، والكليني، وعلي بن بابويه، وغيرهم. وأنَّ هؤلاء العلماء لم يُذكر في أي مصدر كونهم نواباً ووكلاءً للإمام المهدي، وبعبارة أخرى فإنَّ فكرة النيابة والوكالة لم تكن لهم فيها أيّ منفعة أو استفادة.
وعلى هذا الأساس، إذا كان ادّعاء غيبة الإمام المهدي (والنيابة) ادِّعاء كاذباً ولغرض الاستيلاء على الأموال. فلِمَ التزم العلماء المذكورون الصمت أبداً في مواجهتها، ومعه فيمكن القول: إنَّ صمتهم كان تأكيداً على شرعية فكرة الغيبة والنيابة.
الشبهة الرابعة: [دعوى سعي الشيعة إلى خلق كيان سياسي]:
(قال): (ولعل من أسباب القول بالمهديّة والغيبة أيضاً تطلّع الشيعة إلى قيام كيان سياسي لهم مستقل عن دولة الإسلام، وهذا ما نلمسه في اهتمامهم بمسألة الإمامة، ولمّا خابت آمالهم، وغُلبوا على أمرهم وانقلبوا صاغرين، هربوا من الواقع إلى الآمال والأحلام كمهرب نفسي ينقذون به أنفسهم من الإحباط وشيعتهم من اليأس، وأخذوا يبثّون الرجاء والأمل في نفوس أصحابهم، ويمنّونهم بأنَّ الأمر سيكون في النهاية لهم؛ ولذلك فإنَّ القول بالمهديّة والغيبة ينشط دعاته بعد وفاة كلّ إمام؛ لمواجهة عوامل اليأس وفقدان الأمل، بالإضافة إلى تحقيق المكاسب المادية. كما أنَّ التشيع كان مهوى قلوب أصحاب النِحل والأهواء والمذاهب المتطرفة؛ لأنَّهم يجدون من خلاله الجو المناسب لتحقيق أهدافهم، والعودة إلى معتقداتهم...)(٢٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٥) أصول مذهب الشيعة: ص١٠٠٩.
↑صفحة ٢٦١↑
نقد ومراجعة:
التحليل الثاني الذي قدَّمه القفاري من أجل إثبات زيف فكرة الغيبة، إن كان صحيحاً، فإنَّه أكثر من مجرد نفي للاعتقاد بالغيبة، بل يبطل أصل فكرة المهدوية، لأنَّه بناءً على هذا التحليل يمكن اعتبار فكرة المهدوية مُختلَقة مثلما يراها بعض الغربيين، وذلك بالقول إنَّه نظراً لانحطاط وضعف المجتمع الإسلامي، وانتشار الفساد والظلم بينهم، وعدم قدرتهم على مواجهته، فقد اخترعوا فكرة المهدوية وتعلقوا بظهور المهدي الموعود وانتشار العدالة وزوال الفساد والظلم بواسطته. مع أنَّ القفاري - كما يبدو - يقبل أصل فكرة المهدوية، ولهذا السبب فإنَّ التحليل المذكور غير مقبول لديه أيضاً. وبناءً على هذا التحليل السابق، فإنّ القفاري لا يُشوش فقط على الاعتقاد بالإمام المهدي (وفقاً للقراءة الشيعية)، بل يهز أيضاً أساس فكرة المهدوية حتَّى وفقاً للقراءة السنّية. مع أنَّ هذه الفكرة هي من المعتقدات التي لا شكّ فيها في دين الإسلام.
بالإضافة إلى ما تمّ ذكره، يمكن القول في نقد التحليل المذكور: إنَّه إذا كان تحليل السيد القفاري صحيحاً، وأنَّ الشيعة بالفعل قد ابتكروا فكرة المهدوية بسبب اليأس من الحصول على السلطة السياسية، فإنَّ ما كان يعالج هذا الإحباط ويخفف من يأسهم هو فكرة المهدوية نفسها، وليس الاعتقاد بغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
بمعنى آخر: كان بإمكان الشيعة أن يطمئنّوا بقدوم رجل مصلح سيعيد إليهم السلطة، وللتغلب على يأسهم وإحباطاتهم لم يكن لديهم أي حاجة للاعتقاد بغيبة المهدي المنتظر، بل إنّ فكرة المهدوية نفسها، حتَّى في قراءتها السنية - أي الاعتقاد بأنَّ الإمام المهدي حالياً غير موجود، وأنَّ ظهوره في مستقبل غير محدد قد يكون قريباً - كانت قادرة على تخفيف آلامهم وإعطائهم الأمل.
↑صفحة ٢٦٢↑
لذلك، فإنَّ التحليل الذي قدّمه القفاري لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يثبت زيف فكرة الغيبة، وإذا كان تحليله صحيحاً، فإنّه سيتحدّى الفكرة الأساسية للمهدوية، ومن الواضح أنّه لا يرضى بهذا الأمر، لأنَّ هذه الفكرة هي من المعتقدات التي لا شك فيها في دين الإسلام.
الشبهة الخامسة: [دعوى وجود دور للديانات السابقة في تأسيس المهدوية]:
قال: (ولهذا فإنَّ مسألة المهدية والغيبة حسب الاعتقاد الشيعي لها جذورها في بعض الديانات والنحل، مما لا يستبعد معه أن لأتباع تلك الديانات دوراً في تأسيس هذه الفكرة في أذهان الشيعة...، هي أنَّ نظرية الغيبة ترجع في أصولها إلى ابن سبأ وهو حبر من أحبار اليهود.
كذلك ما صرَّح به بعض شعراء الشيعة من أنّ فكرة المهدية مستمدة من أخبار كعب الأحبار الذي كان على دين اليهودية قبل إسلامه، ويبدو ذلك بوضوح فيما قاله شاعر الكيسانية كثير عزّة في ابن الحنفية:
هو المهدي خبرناه كعب * * * أخو الأحبار في الحقب الخوالي
... وأرجّح في هذه المسألة أنّ عقيدة الاثني عشرية في المهدية والغيبة ترجع إلى أصول مجوسية، فالشيعة أكثرهم من الفرس، والفرس من أديانهم المجوسيّة، والمجوس تدّعي أنّ لهم منتظراً حياً باقياً مهديّاً من ولد بشتاسف بن بهراسف يُقال له: أبشاوثن، وأنَّه في حصن عظيم من خراسان والصّين. وهذا مطابق لجوهر المذهب الاثني عشري)(٢٦).
نقد ومراجعة:
القفاري في بداية هذا الجزء لم يكن متردداً في تقديم فكرة أنَّ الغيبة متأثرةٌ بالديانة اليهودية، ويستند في هذا الادِّعاء إلى ما يعتقد أنَّه دليلان:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦) السابق: ص١٠٠٩-١٠١١.
↑صفحة ٢٦٣↑
الأول: أنَّ أول شخصية تؤمن بغيبة الإمام علي (عليه السلام) كان عبد الله بن سبأ اليهودي.
والثاني: أن (كُثيراً) وهو من الشعراء الكيسانيين يستشهد في شعره بأقوال كعب الأحبار اليهودي.
لقد تحدثنا سابقاً بالتفصيل عن ادِّعاء الكاتب الأول، وشرحنا أنه إذا كان بالإمكان اعتبار عبد الله بن سبأ أول شخصية تدَّعي غيبة الإمام علي (عليه السلام)، إلّا أنَّه لا يمكن استنتاج أنّه مؤسّس لفكرة الغيبة أيضاً، لأنَّ هناك فرقاً كبيراً بين هذين الأمرين.
أمّا بالنسبة لشعر كُثير، فيجب القول: إنَّ القفاري غفل عن هذه النقطة الواضحة، وهي أن (كُثيراً) في هذا الشعر ينسب إلى كعب ما يتعلق بمهديّة محمد بن حنيفة، وليس غيابه. (هو المهدي خبّرناه كعب)، وليس واضحاً كيف استطاع جناب القفاري استنباط انتقال فكرة الغيبة من خلال كعب الأحبار إلى الكيسانية من هذا الشعر.
وبغض النظر عن ما تقدّم، فمن المدهش حقّاً كيف تجرّأ القفاري في الحديث عن تأثير أفكار وكلمات كعب الأحبار على الشيعة، في حين أنَّ التاريخ ومصادر أهل السنة تشهد بأنَّ هؤلاء هم الذين يعدّونه شخصية هامّة، وكتبهم مليئة برواياته. أليس من المعروف أنّ كعب الأحبار كان في عدَّة مناسبات مستشاراً الخليفة الثاني(٢٧)؟ أليس هو القائل: (ألا إنَّ كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده علم كالبحار)(٢٨)؟، وهل التعابير مثل: (وهو من كبار التابعين وعلمائهم وثقاتهم، وكان من أعلم الناس بأخبار التوراة، وكان حبراً من أحبار اليهود، ثم أسلم فحسن إسلامه، وكان له فهم ودين، وكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧) الخطيب البغدادي - تاريخ بغداد: ج١، ص٥٢؛ ابن عساكر - تاريخ مدينة دمشق: ج٢، ص٣٥٩؛ السابق: ج٥٠، ص١٥٨؛ و...
(٢٨) فتح الباري: ج١٣، ص٢٨٢.
↑صفحة ٢٦٤↑
عمر يرضى عنه)(٢٩)، هي آراء علماء السُنَّة أم المفكرين الشيعة؟ وهل عبد الله بن عمر وأبو هريرة وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم من الشخصيات السنّية هم رواة روايات كعب الأحبار، أم علماء الشيعة؟! ليت القفاري على الأقل وجد واحدة من هذه التعابير العالية التي ذكرها العلماء السُنَّة في وصف كعب الأحبار في كلمات العلماء الشيعة. وعندها كان سيتحدث عن تأثير أفكاره على معتقدات الشيعة. لا أعلم كيف كان يفكر القفاري ليعتبر شباب المسلمين جهلاء وسُذّجاً إلى هذه الدرجة، وبهذه الجرأة ينسب عيوب وضعف مذهبه إلى المذهب الشيعي.
أمّا الرد على ادِّعائه بأنَّ فكرة الغيبة لها جذور في مذهب المجوس، فيجب القول:
أولاً: من خلال الرجوع إلى المصادر القديمة والأصلية لمذهب زردشت، يتضح تماماً أنَّ الزرادشتيين لا يؤمنون بغيبة موعودهم بأي شكل من الأشكال.
ومن المؤسف أنَّ السيد القفاري في رسالته للدكتوراه قد لجأ إلى كتب من الطبقة الثانية بدلاً عن الرجوع إلى النصوص القديمة لنسبة عقيدة إلى الزرادشتيين، وليس فقط إلى المصادر الزرادشتية، بل إلى كتاب كاتب مسلم، ومن المؤسف أكثر أنَّ مجموعة من الأساتذة في مركز أكاديمي قد أيدوا أقواله وقبلوا كتابه كرسالة دكتوراه. هذه المسألة ستثير لدى القارئ البصير سؤالاً مهماً، وهو: هل المراجع التي استخدمها الكاتب من المصادر الشيعية تتمتع بنفس القدر من الدقة والصحة؟
وثانياً: إيمان الشيعة بغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) له جذور في كلمات النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، وفي هذا الشأن تمّ جمع وتوثيق مئات الروايات في المصادر الشيعية القديمة، وأنَّ وجود عقيدة مشابهة في الديانة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩) ابن عبد البر - التمهيد: ج٢٣، ص٣٩.
↑صفحة ٢٦٥↑
المجوسية - افتراض وجودها طبعاً - لا يعني أنّ هذه الفكرة قد انتقلت من المجوسية إلى الشيعة، كما صرَّح القفاري بوجود اعتقاد مشابه في اليهودية، ومجرّد التشابه لا يعني انتقاله من الديانة اليهودية.
بمعنى آخر، إذا كان مجرد اشتراك مذهبين في عقيدة ما يدل على انتقال تلك العقيدة من ديانة قديمة إلى مذهب آخر، فيجب أن نعدّ أصل التوحيد، والمعاد، والنبوة، والإيمان بالموعود... من رواسب الديانتين اليهودية والمسيحية، لأنَّ هذه المعتقدات كانت موجودة قبل الإسلام في تلك الأديان. وإذا كان مجرد الاشتراك لا يدلّ على الانتقال، كما اعترف القفاري بنفسه، فلا يمكن اعتبار عقيدة غيبة الموعود في مذهب الشيعة مستندة إلى الديانة الأقدم بناءً على هذا الاشتراك. بالطبع، بغض النظر عن أنَّ الإيمان بالغيبة لا يوجد أساساً في ديانة المجوس.
الشبهة السادسة: [واضح مبدأ الغيبة]:
قال: (واضع مبدأ الغيبة عند الاثني عشرية:
إذا كان ابن سبأ هو الذي وضع عقيدة النص على علي بالإمامة - كما تذكره كتب الفِرَق عند الشيعة وغيرها - فإنَّ هناك ابن سبأ آخر هو الذي وضع البديل (لفكرة الإمامة) بعد انتهائها حسّياً بانقطاع نسل الحسن، أو أنَّه واحد من مجموعة وضعت هذه الفكرة، لكنّه هو الوجه البارز لهذه الدعوى. هذا الرجل يدعى عثمان بن سعيد العمري، وقد قام بدوره في منتهى السرية حيث (كان يتجر في السمن تغطية على الأمر)، وكان يتلّقى الأموال التي تؤخذ من الأتباع باسم الزكاة والخمس وحق أهل البيت فيضعها (في جراب السمن وزقاقه... تقيّة وخوفاً). وقد زعم - في دعواه - أنَّ للحسن ولداً قد اختفى وعمره أربع سنوات، وزعم أنه لا يلتقي به أحد سواه، فهو السفير بينه وبين الشيعة، يستلم أموالهم، ويتلقى أسئلتهم ومشكلاتهم ليوصلهم للإمام الغائب.
↑صفحة ٢٦٦↑
ومن الغريب أنَّ الشيعة تزعم أنّها لا تقبل إلَّا قول المعصوم (عليه السلام) حتَّى ترفض الإجماع بدون المعصوم، وها هي تقبل في أهم عقائدها دعوى رجل واحد غير معصوم)(٣٠).
نقد ومراجعة:
من أقوال السيد القفاري يُستنتج أنَّ قضيّة وجود وغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لم تُطرح في أيّ من أحاديث النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، ولم يتحدَّث الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في هذا الشأن، ولم يعلم أحدٌ عن ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ولم يلتقِ أيّ من الشيعة به، ولم يكن أحدٌ على علم بوجوده، وأنَّه قبل استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام) لم يكن هناك أي تصوُّر بين الشيعة حول ذلك، وفجأة ظهر رجل مجهولٌ يُدعى عثمان بن سعيد يدَّعي أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) له ابن غائب، ويدَّعي أنَّه نائب ذلك الإمام. حقّاً إذا كانت الحقيقة كما وردت في أقوال القفاري، فإنَّ الحق معه، وأنّ الشيعة ليسوا سوى سُذّج.
لكن النصوص التاريخيّة والحديثيّة قد صوّرت الواقع بشكل آخر. ووفقاً لها فإنَّ الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وقبل ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قد أوضحوا في مئات الروايات موضوع الولادة السريّة وغيبته، وقد تحدّث الإمام العسكري (عليه السلام) أيضاً، وبشكل خاص في مواضع متعدّدة، عن غيبة وحياة ابنه.
كانت مسألة غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مسلّمة وموثوقة، لدرجة أنَّه حتَّى قبل ولادته، كُتبت عشرات الكتب تحت عنوان (الغيبة). على سبيل المثال: إبراهيم بن صالح النماطي من أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام)، وحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني المعاصر للإمام الرضا (عليه السلام)، وعلي بن حسن بن فضال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠) أصول مذهب الشيعة: ص١٠٠٩.
↑صفحة ٢٦٧↑
من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام)، وعباس بن هشام المتوفى ٢٢٠، وغيرهم ممن كتبوا عن غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قبل ولادته وغيبته. وبعد ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، أيضاً زار عشرات من الشيعة الموثوق بهم جمال ذلك الإمام، أو علِموا من خلال الإمام العسكري (عليه السلام) ولادته. وكما ذُكِر، فإنَّ أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام)، بل إنَّ جميع الشيعة كانوا متّفقين على هذا الأمر.
من جهة أخرى، فإنَّ عثمان بن سعيد لم يكن إنساناً مجهولاً، بل كان من الشخصيّات المعروفة التي تولّت لسنوات مسؤولية وكالتها من قِبَل الإمام الهادي (عليه السلام) والإمام العسكري (عليه السلام)، وقد وثّقه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في مواضع متعددة أمام الشيعة، وأكّد على وكالته من قِبَل ابنه.
ما تقدَّم يُظهر بوضوح أنَّ اعتقاد الشيعة بالإمام الغائب لا يرتكز على قول عثمان بن سعيد، ليتعجب القفاري من قبول قول غير المعصوم في أهم المسائل. وما يثير التعجّب هو كيف أن القفاري لم يرَ أو لم يُرد أن يرى المئات من الروايات الموجودة في عشرات المصادر الشيعية القديمة، والتي رواها عشرات الرواة الذين كان لديهم ميول وآراء مختلفة وعاشوا في مناطق جغرافية متنوعة، والتي تحدّثت جميعها عن غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه). وبالإضافة إلى ما سبق، هناك أخطاء متعدّدة أخرى في كلمات السيد القفاري التي سيتم الإشارة إليها بإيجاز.
الشبهة السابعة: [دعوى النزاع على السفارة زمن السفير الأوَّل]:
وفي شرح حال عثمان بن سعيد يكتب القفاري:
(وقد ادَّعى مثل دعواه آخرون، كلٌّ يزعم أنَّه الباب للغائب، وكان النزاع بينهما على أشدّه، وكلُّ واحد منهم يخرج توقيعاً يزعم أنه صدَرَ عن الغائب المنتظر يتضمَّن لعن الآخر وتكذيبه)(٣١).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١) أصول مذهب الشيعة: ص١٠١٢.
↑صفحة ٢٦٨↑
نقول: لحسن الحظ، ومع الرجوع إلى المصادر القديمة يتَّضح أنَّه في عصر سفارة عثمان بن سعيد لم يدَّع أحد السفارة، ولم يتنازع أحد معه بشأن أمر نيابة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، حيث لم يكن هناك حتَّى حالة واحدة لمُدَّعٍ كاذب في النيابة. وهذا الأمر يدلّ على ثبات مكانته، واتِّفاق الشيعة على أمر نيابته. وهذا بالطبع نتيجة التمهيد الذي قام به الإمام العسكري (عليه السلام) وتذكيراته المتكررة بشأن نيابة عثمان بن سعيد عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
مع الأخذ في الاعتبار النقطة السابقة، يتّضح أنّ هذا القول من القفاري أيضاً لا أساس له، وهو: (وهناك وكلاء آخرون غير مرضيين من عثمان بن سعيد ومن يشايعه)(٣٢).
الشبهة الثامنة: [دعوى إخراج التوقيعات الكاذبة من أجل الأموال]:
وكتب: (واختلف الشيوخ على النيابة، وكلٌّ يخرج توقيعاً... وكثر الذين يدَّعون النيابة؛ وذلك بُغية الاستيلاء على الأموال التي تُجبى باسم هذا المنتظر...)(٣٣).
هذا الادِّعاء أيضاً، كالسابق، لا أساس له، حيث إنه لا يوجد في المصادر حتَّى حالة واحدة تشير إلى أن المدّعين الكاذبين قد أخرجوا توقيعاً ونسبوه إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه). ولهذا السبب، فإنَّ القفاري لا يقدّم أي سند يدعم دعواه.
الشبهة التاسعة: [دعوى كثرة المخالفين في سفارة محمد بن عثمان]:
ويكتب بعد ذلك:
(ولمّا توفّي عثمان بن سعيد الباب الأول المعتمد عند الاثني عشرية، عيّن من بعده ابنه محمّداً، ولكن خالفه في ذلك طائفة منهم، فلم ترتض بابية ابنه، ونشأ نزاع بينهم ولعن بعضهم بعضاً)(٣٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢) السابق: ص١٠١٣.
(٣٣) السابق: ص١٠١٢.
(٣٤) السابق: ص١٠١٣.
↑صفحة ٢٦٩↑
فنقول: لا يقدِّم الكاتب دليلاً على ادِّعائه ولا يذكر سنداً لذلك، ولكن لتوضيح مدى عدم صحّة أقواله، نرجع إلى أقوال الشيخ الطوسي، حيث يروي:
(لم تزل الشيعة مقيمة على عدالة عثمان بن سعيد ومحمد بن عثمان رحمها الله تعالى إلى أن توفّي أبو عمرو عثمان بن سعيد رحمه الله تعالى، وغسله ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان، وتولّى القيام به، وجعل الأمر كلّه مردوداً إليه، والشيعة مجتمعة على عدالته وثقته وأمانته لِما تقدَّم له من النص عليه بالأمانة والعدالة، والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن (عليه السلام)، وبعد موته في حياة أبيه عثمان بن سعيد، لا يختلف في عدالته، ولا يرتاب بأمانته، والتوقيعات تخرج على يده إلى الشيعة في المهمات طول حياته بالخط الذي كانت تخرج في حياة أبيه عثمان، لا يعرف الشيعة في هذا الأمر غيره، ولا يرجع إلى أحد سواه)(٣٥).
وفي صدر نفس الرواية التي تشرح قضية مخالفة أحمد بن هلال، والتي استند إليها القفاري، جاء فيها: (كان أحمد بن هلال من أصحاب أبي محمد (عليه السلام)، فاجتمعت الشيعة على وكالة محمد بن عثمان (رضي الله عنه) بنص الحسن (عليه السلام) في حياته، ولما مضى الحسن (عليه السلام) قالت الشيعة الجماعة له: ألا تقبل أمر أبي جعفر محمد بن عثمان وترجع إليه...)(٣٦).
بالطبع، القفاري، ومن أجل إظهار عدد المعارضين بشكل أكبر، امتنع عن ذكر صدر الحديث، واكتفى بنقله في ذيله. بناءً على ذلك، تشهد المصادر القديمة للشيعة على الإجماع حول نيابة النائب الثاني، ومن الواضح أنَّه مع وجود مثل هذا الإجماع بين الشيعة حول سفارته، فإنَّ عدداً قليلاً من المدّعين الكاذبين الذين عارضوه لا يؤثر على سفارته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٥) الشيخ الطوسي - الغيبة: ص٣٦٢.
(٣٦) السابق: ص٣٩٩.
↑صفحة ٢٧٠↑
الشبهة العاشرة: [دعوى وكالة محمد بن علي بن بلال]:
وقد ادَّعى في سياق حديثه:
(إنَّ رجلاً يُدعى محمد بن علي بن بلال رفض بابية محمد بن عثمان العمري، وأنَّه جرى بينه وبين العمري قصّة معروفة، حيث تمسّك الأول بالأموال التي كانت عنده للإمام، وامتنع من تسليمها، وادّعى أنَّه الوكيل حتَّى تبرأت منه الجماعة ولعنوه)(٣٧).
فإنَّ ادِّعاء مشاركة محمد بن علي بن بلال مع عثمان بن سعيد في الوكالة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وثقته عند الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو أيضاً مثل الادِّعاءات السابقة للشيخ القفاري غير الحقيقية؛ لأنَّه من الجملة التي ذكرها الشيخ الطوسي: (كان لديه أموال من الإمام احتفظ بها وامتنع عن دفعها)(٣٨)، التي استند إليها القفاري في ادِّعائه لوكالة ابن بلال عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لا يمكن بأي حال استنباط الوكالة منها، لأنَّه من الممكن أن يكون ابن بلال قد ادَّعى الوكالة كذباً، وأنَّ الغافلين من الشيعة قد دفعوا له أموالهم الشرعية، وهو ممكن الحدوث(٣٩)، وقد صرَّح الشيخ الطوسي بالنقطة السابقة، وبعد ذكره امتناعه عن دفع الأموال الشرعية، قال: (وادِّعاءه أنَّه الوكيل حتَّى تبرّأت الجماعة منه ولعنوه)(٤٠)؛ وبناءً على ذلك، فإنَّ محمد بن علي بن بلال لم يكن وكيلاً، ولا محل ثقة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
الشبهة الحادية عشر: [دعوى التزاحم على البابية من أجل الأموال]:
القفاري بناءً على الشبهة السابقة التي تمّ توضيح بطلانها، ألقى شبهة أخرى وادَّعى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٧) أصول مذهب الشيعة: ص١٠١٤.
(٣٨) الشيخ الطوسي - الغيبة: ص٤٠.
(٣٩) انظر ترجمته: الكشي - رجال: ص٦٠٦، ح١١٢٨.
(٤٠) الشيخ الطوسي - الغيبة: ص٤٠٠.
↑صفحة ٢٧١↑
(فهو تزاحم وتكالب على البابية والوكالة من أجل جمع الأموال... وإلَّا لو كان هناك (إمام) غائب، يسير أم شيعته عن طريق الأبواب لما صارت الأموال إلى هذا الرجل المحتال، ولما كان محل ثقة الإمام صاحب الزمان؛ لأنَّ الإمام عندهم يعلم ما كان وما يكون... فلماذا لم يصدر أمره من البداية في التحذير من التعامل معه حتَّى لا يأخذ أموال الناس؟! لكن الحقيقة أنَّه لا إمام غائب...)(٤١).
فنقول: على الرغم من أنَّ ما تمّ ذكره في الشبهة السابقة يجعل هذه الشبهة غير قائمة من الأساس؛ لأنَّه أساساً لم يثبت وكالة ابن بلال عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
وعلى فرض أنَّنا نقبل بوجود بعض الأشخاص الخائنين بين وكلاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فإنَّ هؤلاء الأشخاص عندما تمّ تعيينهم كوكلاء كانوا من الصالحين، وبعد تعيينهم للوكالة اتّخذوا طريق الانحراف.
إنَّ تعيين مثل هؤلاء الأشخاص كوكلاء رغم علم الإمام بالمستقبل لا يُعدّ إشكالاً؛ لعدة أسباب:
أولاً: وفقاً للاعتقاد الشيعي، أنَّه بالرغم من أنَّ الأئمة المعصومين لديهم علم الغيب، إلَّا أنَّهم ملزمون بالتصرف وفق الظاهر، ويجب عليهم تجنّب إدخال علم الغيب في قراراتهم إلَّا في حالات استثنائية؛ لأنَّ من خلال هذا السلوك العادي والطبيعي من الإمام المعصوم، يُهيئ المجال لاختبار الناس، وسيكون بإمكانهم اختيار طريق السعادة أو الشقاء دون إكراه. ومن الأمثلة القرآنية على هذه القضية بلعم بن باعوراء، الذي كان رجلاً ورعاً وزاهداً، وقد نال بفضل الله تعالى من نعمه ما جعله يرى عرش الله(٤٢)، وكان مستجاب الدعوة(٤٣)، وكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤١) أصول مذهب الشيعة: ص١٠١٤.
(٤٢) المناوي - فتح القدير: ج١، ص٢٤٢.
(٤٣) ابن جرير الطبري - جامع البيان: ج٩، ص١٦٦.
↑صفحة ٢٧٢↑
يعرف الاسم الأعظم(٤٤)، ولكنه في النهاية، بسبب تعلقه بالدنيا، انتهى به الأمر إلى أن صار كما ورد في القرآن: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ (الأعراف: ١٧٦).
وهنا نسأل القفاري: أليس من المعروف أنَّ الله الذي يعلم ما كان وما سيكون كان يعلم في النهاية من حال بلعم بن باعوراء، فلماذا لم يمنعه هذا العلم السابق من أن يحرمه من لطفه، ولم يعلّمه الاسم الأعظم، ولم يجعله مستجاب الدعوة؟ أليس ذلك بسبب أن الإرادة الإلهية قد تعلّقت بعدم الحكم على البشر بناءً على علمه الغيبي، بل بمنحهم أو حرمانهم وفقاً للسلوكيات التي يظهرونها؟ كذلك هو علم الأئمة المعصومين بالغيب، الذي هو شعاع من العلم الغيبي الإلهي الذي هو ذاتي وغير محدود.
ثانياً: إنَّ تعامل الإمام مع الوكلاء الذين كانوا في الوضع الحالي صالحين ومؤهلين، والذين قد ينحرفون في المستقبل، هو من مصاديق القصاص قبل الجريمة، وهو أمر غير مرغوب فيه شرعاً وعقلاً. لذلك، إذا كان هناك بين وكلاء الإمام أشخاص قد انحرفوا بعد تعيينهم في الوكالة، فإنَّ تعيينهم لهذا المنصب يبقى بدون إشكال.
بناءً على ما سبق، تتَّضح الإجابة على سؤال السيد القفاري حول سبب عدم تحذير الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من التواصل مع هؤلاء الأشخاص الخائنين منذ البداية، حيث إنَّ الافتراض المسبق لهذا السؤال هو تدخّل علم الغيب للإمام في جميع الشؤون، وحل جميع الأمور من خلال علم الغيب، في حين أنَّ الأئمة المعصومين في الماضي، باستثناء الحالات الاستثنائية، قد تصرّفوا وفقاً للظاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٤) ابن كثير - تفسير: ج٢، ص٢٧٥.
↑صفحة ٢٧٣↑
الشبهة الثانية عشر: [دعوى إخراج توقيعات اللعن على من لا يدفع الأموال]:
يكتب المؤلف بعد ذلك: (كان الباب يخرج توقيعاً باللعن والبراءة كعادة الأبواب فيمن يرفض دفع الأموال إليهم)(٤٥).
هذه الجملة تحتوي على ادِّعاءين، الأول: هو أن عادة نوّاب الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كانت أنَّهم يصدرون توقيعاً بلعن معارضيهم، والثاني: هو أنّ هذه العادة كانت تُمارَس ضد الذين يمتنعون عن دفع الأموال لهم.
في الرد على الادِّعاء الأول؛ يجب أن يُقال: إنَّه وفقاً لإفادة المصادر، فإنه باستثناء خمسة أشخاص، وهم: الشريعي(٤٦)، وأحمد بن هلال(٤٧)، ومحمد بن علي بن بلال(٤٨)، والشلمغاني(٤٩)، والنميري(٥٠) - لم يصدر توقيع من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بلعن أي شخص، لذلك لا يمكن اعتبار صدور توقيع بلعن المعارضين عادة من عادات النوّاب.
أمّا الرد على الادِّعاء الثاني، فهو: أنَّه لم يصدر أي من التوقيعات التي صدرت ضد الأشخاص المذكورين بسبب انحرافات مالية فقط، بل وفقاً لتقرير الشيخ الطوسي كان سبب صدور التوقيع بلعن الشريعي هو كذبه على الله والأئمة المعصومين (عليهم السلام) ونسبته أموراً إليهم، وفي النهاية كفره وإلحاده(٥١)، والنميري لُعن لأنَّه ادَّعى النبوة لنفسه وربوبية الإمام الهادي (عليه السلام)(٥٢)، والشلمغاني انتهى به المطاف إلى الكفر والإلحاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٥) أصول مذهب الشيعة: ص١٠١٥.
(٤٦) الشيخ الطوسي - الغيبة: ص٣٩٧.
(٤٧) السابق: ص٣٩٩.
(٤٨) السابق: ص٤٠٠.
(٤٩) السابق: ص٤٠٥.
(٥٠) السابق: ص٤١١.
(٥١) السابق: ص٣٩٧.
(٥٢) السابق: ص٣٩٨.
↑صفحة ٢٧٤↑
لذلك فإنَّ الصورة التي قدَّمها القفاري عن النواب، والتي تُظهر أسلوبهم في مواجهة من يمتنعون عن دفع الأموال لهم، وهو إصدار توقيع بحقّهم، هي صورة سوداء وخالية من الحقيقة.
الشبهة الثالثة عشر: [دعوى سيادة لغة المال على التوقيعات]:
وكتب فيما بعد: (كما تلاحظ بأنَّ لغة المال هي السائدة في التوقيعات المنسوبة للمنتظر، وعلى ألسنة الأبواب والوكلاء)(٥٣).
فنقول: أولاً: من خلال دراسة توقيعات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، يتَّضح أنَّ حدِّ التوقيعات تتعلق بأمور مثل المسائل العقائدية، والفقهية، والرد على الأسئلة، وإرشاد الشيعة، وغيرها، ولم يتم ذكر أي مسائل مالية فيها، ولا أنَّ الحدود الوحيدة المتعلقة بها هي حول المسائل المالية. لذلك، فإنَّ الادِّعاء بأنَّ كلمة (مال) هي الكلمة الشائعة الوحيدة في التوقيعات هو باطل من الأساس.
وثانياً: يبدو أن السيد القفاري يريد أن يوحي للقرّاء بأنَّ التوقيعات المالية تحتوي على مضامين، مثل التشجيع على دفع المال، والتهديد بعدم دفعه، وكيفيّة توزيع الأموال بين الأفراد المعنيين، بينما في مواضع متعددة وحتَّى في هذا الجزء القليل من التوقيعات، تسعى لطرح مواضيع أخرى، مثل الأمر بعدم أخذ الأموال المرسلة(٥٤)، وإعادة الأموال المحرمة(٥٥)، وإعلان المقدار الدقيق للأموال المرسلة(٥٦)، وبالتالي، فإنَّ الصورة التي يقدّمها السيد القفاري عن المسائل المالية لنائبي الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لا تتوافق بأي شكل من الأشكال مع الواقع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٣) أصول مذهب الشيعة: ص١٠١٦.
(٥٤) الشيخ الصدوق - كمال الدين: ص٤٨٦.
(٥٥) السابق.
(٥٦) قطب الدين الراوندي - الخرائج والجرائح: ج٢، ص٧٠٠.
↑صفحة ٢٧٥↑
الشبهة الرابعة عشر: [دعوى النزاع في تعين السفير الثالث]:
ويستمر حديث الكاتب بقوله:
(فقد أثار تعيين أبي القاسم بن روح نزاعاً كبيراً بين الخلايا السرية، فانفصل عدد من رؤسائهم، وادّعوا البابية لأنفسهم... وكثر التلاعن بينهم)(٥٧).
فنقول: أولاً: في المصادر، ذُكر النزاع بين النائب الثالث والشلمغاني بشكل صريح، ولم يُذكر أي نزاع أو لعن لشخص آخر من قبل الحسين بن روح. نعم، من المحتمل أن الحلّاج وأبا بكر البغدادي، وأبا دلف المجنون، قد طرحوا ادّعاءات باطلة في عصر النائب الثالث، ولكن هذا لم يُذكر بشكل صريح في المصادر. ومع ذلك، كما قال الشيخ الطوسي: (وأمر أبي بكر البغدادي في قلة العلم والمروة أشهر، وجنون أبي دلف أكثر من أن يحصى)(٥٨).
وقال جعفر بن محمد بن قولويه: (أمّا أبو دلف الكاتب - لا حاطه الله - فكنّا نعرفه ملحداً ثمّ أظهر الغلو، ثم جُنّ وسلسل، ثم صار مفوِّضاً، وما عرفناه قط إذا حضر في مشهد إلّا استخفّ به، ولا عرفته الشيعة إلَّا مدة يسيرة)(٥٩).
لذلك، لم يكن لهذين الشخصين مكانة أو موقع بين الشيعة، ليتمكّنا من مواجهة الحسين بن روح والنزاع معه. بناءً على ذلك، فإنَّ قول القفاري بأن تعيين الحسين بن روح أثار نزاعاً كبيراً ليس إلَّا تشويهاً للحقائق.
ثانياً: إنَّ جناب القفاري الذي عدّ النزاع بين نائبي الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والمدّعين دليلاً على زيف ادِّعاء النيابة، يبدو أنَّه نسي أنَّ التاريخ شهد نزاعات وصراعات أكثر بكثير وأشد، لكن أهل السنّة في بعض الحالات لم يحكموا فقط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٧) أصول مذهب الشيعة: ص١٠١٧.
(٥٨) الشيخ الطوسي - الغيبة، ص٤١٣.
(٥٩) السابق: ص٤١٢.
↑صفحة ٢٧٦↑
على بطلان الطرفين المتنازعين، بل عدّوا كليهما على حق، بل وأجروا عليهما الأجر. والنووي من أكبر شراح صحيح مسلم، كتب ما يلي:
(وأمّا علي فخلافته صحيحة بالإجماع، وكان هو الخليفة في وقته لا خلافة لغيره. وأمّا معاوية فهو من العدول الفضلاء، والصحابة النجباء، وأمّا الحروب التي جرت فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب أنفسها بسببها، وكلّهم عدول رضي الله عنهم، ومتأوّلون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شيء من ذلك أحداً منهم عن العدالة؛ لأنَّهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها، ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم)(٦٠).
فماذا حدث حتَّى يكون نزاع معاوية وطلحة والزبير وعائشة مع الإمام علي (خليفة رسول الله) وسفك دماء آلاف المسلمين الأبرياء لم يكن نزاعاً على جيفة الدنيا، ولم يخرجهم عن حدود الحق، ولم يكن سبباً لانحرافهم، بينما نزاع نواب الإمام المهدي مع المدّعين الكاذبين للنيابة، - الذين كان عددهم قليلاً ولم يسفكوا دماً ولم يتجاوزوا النزاع اللفظي - هو دليل بطلان ادّعائهم وانحرافهم عن الحقيقة؟!
حقاً إنَّه لمن الغريب أن يكون النزاع في مكانٍ ما دليلاً على بطلان طرفي النزاع، وفي مكان آخر - مع أن هذا النزاع موجود بشدّة أكبر - لا يُعدّ أحد الطرفين باطلاً. ما لكُم كَيْفَ تَحْكُمُون؟!
الشبهة الخامسة عشر: [دعوى أنَّه السفارة بالاتفاق مع بعض المدَّعين]:
ويستمر القفاري في سلسلة دعاويه على هذا النحو، فيقول:
(وقد اضطرّ بعضهم لأن يكشف حقيقة دعوى البابية تلك بسبب أنَّه لم ينجح في اقتناص مجموعة أكبر من الأتباع، ومن هؤلاء محمد بن علي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٠) شرح صحيح مسلم - النووي: ج١٥، ص١٤٨.
↑صفحة ٢٧٧↑
الشلمغاني المقتول سنة (٣٢٣هـ). وهو ممّن ادّعى النيابة عن مهدي الروافض، ونافس أبا القاسم الحسين بن روح عليها، وفضح أمرهم فقال: (ما دخلنا مع أبي القاسم الحسين بن روح إلَّا ونحن نعلم فيما دخلنا فيه، لقد كنا نتهارش على هذا الأمر كما تتهارش الكلاب على الجيف))(٦١).
نقول: الكاتب في هذا المقطع من ادِّعائه يستند إلى كلام الشلمغاني المدّعي الكاذب للنيابة، لإثبات كذب مسألة النيابة، وهذا من أغرب الاستدلالات، لأنَّه أراد أن يستخدم ادِّعاءً بلا دليل لشخص كان من أعداء قضية النيابة كدليل ضدها، وهذا غريب حقّاً أن يستند إلى أكاذيب أعداء في نقد مذهب أو تيار فكري أو اجتماعي.
بالطبع، نحن نوافق السيد القفاري في جزء من المسار، ونقبل ادّعاء الشلمغاني بشأن نفسه، ومن هنا فإنَّ اعتراف العقلاء على أنفسهم جائز، ونقر بأنه اعترف بنفسه أنه إذا نشب نزاع مع الحسين بن روح حول النيابة لم يكن له هدف سوى الوصول إلى مصالح دنيوية، وكان مثل الكلاب الضارية يبحث عن جيفة الدنيا.
لكن لا ينبغي للقفاري أن يتوقع أن يقبل أحد ادِّعاء الشلمغاني بلا سند حول الحسين بن روح؛ لأنَّ التاريخ دائماً شهد على العديد من الأشخاص الذين تخلّوا عن مذهبهم واعتنقوا مذهباً جديداً، وبعد هذا التغيير في الموقف أدلوا بآراء حول مذهبهم السابق والأشخاص المرتبطين به. ومن الواضح أنَّه في العديد من هذه التغييرات في المواقف لم تكن نتيجة ظهور الحقيقة، بل بسبب أغراض مادية، أو سياسية، أو اجتماعية... وطبيعة مواقف وآراء هؤلاء الأفراد ستتأثر بنفس تلك الأغراض، ولهذا السبب لا يمكن الوثوق بكلماتهم.
ما سبق ذكره يؤكد ويُظهر أنَّ الشلمغاني لم يكن إنساناً صالحاً طالباً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦١) أصول مذهب الشيعة: ص١٠١٧.
↑صفحة ٢٧٨↑
للحقيقة، وأنَّ معارضته لوكلاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لم تكن ناتجة عن حرية فكر أو بحث عن الحقيقة.
الشبهة السادسة عشر: [دعوى انتهاء وعود الشيعة بالظهور]:
ثم قال: (قد تخلفت وعود الشيعة بالظهور للغائب المستور، وساد الشك الأوساط الشيعية، وبدأت تتكشف حقيقة الأمر بعد النزاع الحاد الذي وقع بين أدعياء البابية، ولذلك اختفى نشاط الباب تماماً، فلا تجد له في كتب الشيعة مثل ما تجد لأسلافه من الرقاع والتوقيعات التي ينسبونها للغائب المنتظر...)(٦٢).
هنا السيد القفاري في هذا المقطع يقدم تحليلين عن انتهاء أنشطة سفراء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند انتهاء فترة الغيبة الصغرى:
الأوّل: تخلف الوعود بظهور الإمام الغائب. والثاني: النزاع الشديد بين المدّعين للبابية.
فيما يتعلق بالتحليل الأول، يجب أن يقال: إنَّ الكاتب لم يقدّم أي دليل على هذا التحليل، ولم يوضح كيف أنَّ شيوخ الشيعة قد حددوا زماناً للظهور، وأنّهم كذبوا في وعودهم، وبالطبع إذا كان لديه دليل في هذا الشأن لما تردد في تقديمه. لذلك، فإنَّ تحليله الأول غير صحيح ويفتقر إلى الوثائق.
أمّا التحليل الثاني الذي يتناول النزاع الشديد بين مدَّعي البابية، فقد تم الحديث عنه بالتفصيل سابقاً، وتبيَّن أنَّه:
أوَّلاً: كان عدد المدّعين الكاذبين للنيابة خلال سبعين عاماً في فترة الغيبة الصغرى عدداً قليلاً جداً.
وثانياً: نتيجة لتدخلات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وتوضيحات نوابه، انكشفت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٢) أصول مذهب الشيعة: ص١٠١٨.
↑صفحة ٢٧٩↑
الحقيقة وراء المدّعين ولم يتمكنوا من إيجاد مكانة لهم بين الشيعة، لذلك، لم يكن نزاعهم مع سفراء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بأي شكل من الأشكال سبباً لفتور الناس تجاه منظومة الوكالة.
وبغضّ النظر عن النقد الذي وُجّه لتحليل القفاري حول انتهاء فترة الغيبة الصغرى.
يمكننا هنا التنويه إلى أنَّ اقتضاء أسباب غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كان أن يختفي وراء حجاب الغيبة، وأنَّ هذه الغيبة ستستمر حتَّى تستيقظ فطرة الناس ويشعروا بضرورة وجوده، ويترقّبوا قدومه، وبعد مجيئه يعرفون قدره وقيمته.
لذلك فللوصول إلى هذه النضوج، لم يكن هناك بد من العيش في الخفاء، لكن المشكلة كانت أنَّه إذا بدأ الإمام (عجَّل الله فرجه) غيبته فجأة وبدون استعداد نسبي للشيعة، فقد يتفكك نسيج المجتمع الشيعي، وتنهار أسس ذلك بفعل سيل الشبهات والمشكلات والضغوط. لذا، للوصول إلى وضعية الغيبة الكاملة للمعصوم (عليه السلام)، لم يكن هناك خيار سوى ذلك، في أن يكون الإمام (عليه السلام) مخفياً عن أنظار الشيعة، مع الإشراف على الشيعة من خلال السفراء الذين كانوا على اتِّصال به، وكانوا يتلقّون الإرشادات مباشرة من قبله، ليهيئوا الشيعة لدخول مرحلة الغيبة الكاملة.
ومن الطبيعي أنَّه مع تحقق هذا الهدف وأُلفة الشيعة مع غيبة الإمام المعصوم (عليه السلام) واستيعابهم لهذه الحقيقة، أنَّه يمكن في فترة غيبة المعصوم الرجوع إلى العلماء والحكماء لتدبير شؤون الدين والمجتمع، فلم يكن هناك سبب لاستمرار فترة السفارة؛ لأنَّ هذه المرحلة كانت قد أُعدّت أساساً للانتقال من حالة الحضور إلى حالة الغيبة الكاملة.
وبناءً على هذا التوضيح، يمكن تحليل مسألة قلّة توقيعات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بالنسبة للسفير الأخير أيضاً، لأنَّه عندما كان القرار هو أن تنتهي
↑صفحة ٢٨٠↑
فترة السفارة تدريجياً، وينقطع الاتِّصال بين الشيعة والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تماماً، فإنَّ الحالة الأكثر طبيعية هي أنَّ هذا الانقطاع لا يكون مفاجئاً، بل مع انتهاء فترة السفارة يتم تقليل الاتصال بين الإمام والشيعة عبر السفراء تدريجياً حتَّى يتم قطع الاتصال نهائياً.
لذلك، فإنَّ قلة توقيعات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) للسفير الرابع مقارنةً بالسفراء الآخرين أمر طبيعي ومنطقي تماماً، بل إذا واجهنا في عصر السفارة للسفير الرابع عدداً كبيراً من التوقيعات، لكان لدينا تساؤل عن سبب وجود كل هذه التوقيعات رغم القرار بإنهاء عصر السفارة.
وكان السفير علي بن محمد السمري على دراية تامّة بهذا الأمر، ولم يشك في أهمية منصبه إطلاقاً، واستمر في أداء واجبات السفارة بجدّية حتَّى اللحظات الأخيرة من حياته.
وأمَّا السيد (رونالدسن) الذي ادَّعى أنَّ الشعور باليأس وعدم أهمية منصب السفارة قد أصاب السفير الرابع، فلا يوجد لديه أي دليل عليه، وكما عبَّر القفاري في مكان آخر، فإنَّه هو وغيره من المستشرقين يحلّلون الأحداث التاريخية بناءً على أفكارهم الإلحادية، لذا فإنَّ تحليلاتهم إذا كانت تفتقر إلى الوثائق، فلا قيمة لها. وبالطبع، فإنَّ السيد القفاري الذي التزم في بداية كتابه باستخدام المصادر الشيعية فقط في نقد عقائد الشيعة، يبدو أنَّه لم يكن لديه خيار سوى الاستناد إلى أقوال المستشرقين الذين ذكرهم في أماكن أخرى ونعتهم بالكفار، ونحن أيضاً نفهم حاله.
↑صفحة ٢٨١↑